سحر
ظهرت من جديد، هذه الليلة. لماذا من جديد؟ هل رأيتها فعلا من قبل، في مكان آخر، في وقت مضى؟ لماذا انتابني هذا الشعور، هذه الرعشة في القلب، منذ أن دخلت، هذه الليلة، في هذه الصالة الواسعة، برفقة تلك العجوز ذات النظرات الخبيثة -كلتاهما ترتدي ملابس سوداء كالغجر-، و بدأت تجتاز المطعم دون إهتمام للاضطراب الذي أثارته. وجهها كان جميلا، أنوفا مضاء ومستسلما للعبة الضوء والظل المنبثقين من السقف؟ لماذا شعرت بوجودها، حتى قبل رؤيتها، رؤية الإثنتين معا، عندما دفعتا الباب الزجاجي، قادمتين من غموض ليل هذه المدينة المفزعة، كلاجئتين في هذه الصالة الواسعة المعبأة بالضجيج؟ نعم أنا شعرت بذلك في داخلي، كنظرة غريبة، كحركة الهواء على جلدي، كخطر قادم، دخلتا هذه الصالة الضخمة والغريبة، معا في الحركة البطيئة لثنايا ثوبيهما الأسودين. يا لها من شابة، جميلة، ذات وجه متألق، ويا لها من عجوز سوداء، متجعدة، خشنة وذابلة، مع هذه النظرة الثابتة، الجامدة، كظل مدار فارغ. لكن لماذا يخفق قلبي بسرعة أكبر، بقوة أكبر، كأن هذه اللحظة كانت تمتلك أهمية كبرى، لا شيء مما كنت أعيشه، لا شيء مما عشته، كان مصادفة؟ نهضت قليلا عن الكرسي، أظن، أنه كان ذلك من أجل المغادرة، أو من أجل أن أذهب أمامها، لم أعد أدري. كنت أراهما تتقدمان عبر الصالة الواسعة، تتبعان خطا منحرفا، كانت في الأمام، هادئة، تقف أمام كل طاولة، متبوعة بالعجوز التي كانت تنحني، و التي كانت نظرتها تركض أسرع منها، باحثة عن شيء ما، لا تستطيع التقاطه. عندما وصلتا إلى آخر الصالة، استطعت أن أفهم السبب الذي جذبهما إلى صالة هذا المطعم، هذه الصالة التي لم توجد من أجلهما. في كل وقفة، كانت العجوز تخرج من قفتها وردة تميل إلى الذبول، وتعرضها على زبائن المطعم، الذين كانوا يديرون وجوههم في ملل، ربما في نفور. جمال الغجرية الشابة لم يكن مدركا، وجهها معتم، عيناها محتدمتان وغافلتان، فمها بهي، شعرها الأسود الطويل مفرود على كتفيها بانطلاق، يداها بمعصمين رقيقين جدا، جسدها اللين الرشيق في ثوب أسود طويل بال من الساتان، راقصة كظل، كانت هي التي تجبر الناس على الالتفاف عنها، على الهرب في محادثة مصطنعة، لا مبالاة مستعارة، أو حتى، على غضب موح. نعم، عدة مرات، رأيت نساء ورجالا، في اللحظات التي كانت فيها العجوز المتسولة تتوسل إليهم، كانوا يطردونها بعنف، رافعين صوتا يجلب الخوف و الهياج. المهرجتان تتابعان التقدم في الصالة الكبيرة، التي أصبحت شيئا فشيئا صامتة و فارغة. أما أنا، فأجلس على طاولتي وسط الصالة، لم أعد أرى المدعوين، لم أعد أسمع هيجان أصواتهم. على العكس، كنت أشعر، بشكل غير محتمل، بكل حركة صادرة عن المرأتين، كان يخيل إلي بأني كنت أسمع كل رنة من صوتيهما، أو بالآحرى، الصوت الرتيب والنائح للعجوز ذات النظرة الخبيثة، والصمت الأنوف للمراة الشابة الجميلة، التي كانت تمشى أمامها، وتنتقل، هي أيضا، من طاولة إلى طاولة لكن دون أن تستدير، النظرة ترقب البعيد في الفراغ، في ألق اللمعان القاسي، الذي يدعو إلى الفزع. أما أنا، فقلبي كان يخفق في صدري بقوة أكثر فأكثر، شعرت أن العرق يبلل راحتي. من أي شيء أنا خائف؟ بأي شيء تستطيع هاتان الغجريتان (فلم يعد لدي الشك بأنهما غجريتان بأثوابهما الطويلة، والشعر المحلول والعيون الشديدة السواد للمرأة الشابة والوجه الطويل الدقيق للمرأة العجوز المتسولة) أن تهدداني؟ و بالرغم من ذلك كان هذا: كنت أشعر بأن هذا المشهد لا يملك أي معنى إلا من أجلي، لأني كنت فيه. كأن المرأتين ذاتي اللباس الأسود لم يدخلا في صالة هذا المطعم من أجل أن يبيعا زهورهما، لكن من أجل أن يبحثا عني.
عندما فهمت ذلك، بدأ قلبي يخفق بسرعة وبقوة أكبر. الخوف، أو الآن، الغضب الذي حجب النور عن ذهني، أجبرني على البقاء، على مشاهدة ما سيحدث. لم أكن أستطيع انتظار ما سيتبع بحثهما بهذه الطريقة، من طاولة إلى طاولة. لم أعد أستطيع تحمل ذلك كنت سأصرخ، ربما، بالطرق على طاولتي:ٍ"هنا.. انظروا إلي... أنا هنا ..هنا.." عندما أدارت المرأة الشابة الرأس نحوي، كأنها قد شعرت بنظرتي القاسية، الغامضة، كأنها أحست بصرختي البكماء. أدارت كل جسدها نحوي. كان لها، إذا، جمال باهر. تحت ضوء السقف الذي كان ينيرها كما تضاء خشبة المسرح، وجهها كان صافيا وباهرا، مثل تمثال، لكن في شيء من الحرارة ومن الحياة في نظرتها الداكنة، وعلى مشهد شفتيها، وفي لمعان وجنتيها. كانت تمسك معصم يدها اليسرى في يدها اليمنى، تشد عليه بحركة تدل على نفاذ صبرها وكان يخيل إلي، رغم المسافة، بأني أرى صدرها ينتفض على تناغم تنفسها، أيضا، على تناغم تنفسي.
فجاة، غادرتني الخشية، لم اعد أشعر بالغضب أو بالخوف أو حتى بنفاد الصبر. كنت أشعر بالأحرى بالنشوة، لأن هذه المرأة المجهولة تحدق في، تنقض بنظرتها على نظرتي. لم أعش أبدا شيئا كهذا في مكان أخر، لم أشعر ابدا بأني ضائع في لجة نظرة بهذا القدر. في داخلي، كان ذلك أكبرمن داخلي، كان ذلك في كل الصالة، بل أبعد من ذلك، في هذه المدينة المجهولة في الليل، أشياء وخيالات كانت تعبر، تغادر، تتزحلق كي تملأ عالما أخر، حياة أخرى. من أجل ذلك، ظللت مسمرا، لا أتحرك، كانت سعادة حمقاء عصية على الفهم تسيطر علي شيئا فشيئا. كم من الوقت استمر ذلك؟ لم أعد أعرف، لن أستطيع أبدا قوله. ساعات وأياما، ظللت مسمرا في صالة الرقص هذه، حيث يتحرك الناس كأشباح، بينما العجوز المجنونة تنتقل من طاولة إلى طاولة، و هي تخضخض طاسة خشبية خشنة أو تنوح وتتمتم بلعنات أو بصلوات. ساعات، أياما والنظرة الداكنة للشابة الغجرية تتوهج كشمعة عسلية، كنت أشعر بأني أبعد عني الرغبة بعيدا، الحرارة والأشياء. كل ذلك الذي عشته خلال هذه السنوات الثمانية عشرة حيث لم أكن هنا، حيث كنت قد نسيت، هذه السنوات الثمانية عشرة التي لا معنى أو حقيقة لها، حيث كنت موجودا كأني في حلم، دون أن أمسك أو أن أبحث عن شيء ، كل يوم بيومه، ثمانية عشر عاما من التيه الذي لا طائل منه، من قصص الحب العابرة، من المطاعم، من حفلات الرقص الفارغة، من الرحلات المجهولة حيث تصبح الخرائط متاهات وتصير مشاريع المستقبل رياء وخداعا.
ثمانية عشر عاما كانت تفصلني عنها، عن نظرتها، عن الشعلة الداكنة التي تضيء بؤبؤ عينيها، عن جمالها الباهر يا له من جمال مطلق وخالد. الوقت كان يمر كأنه في حلم، لأن ذلك لم يكن إلا حياتي الحقيقية، في هذه المدن، مع هؤلاء الناس، مهنتي، أصدقائي، عشيقاتي، رحلاتي التي لا حقيقة لها، مجرد انعكاسات لا مبالية ومتوهجة في عيون الغجرية، انعكاسات أكثر قوة من أضواء الحفلات الراقصة. من أجل ذلك، كان قلبي يخفق مع هذا الهيجان، كأنه يريد أن يحطم سجن قفصه. الآن، جسر نظرات الغجرية يسكبني ويوحدني مع الآخر، وينسخ حدود الزمن، هذه الحدود التي لا تملك شرعية للوجود. كنت أنا نفسي، في النهاية، من جديد أنا بنفسي. لا شيء تغير في، كنت ذاك الطفل ذا الثلاثة عشرعاما الذي كان يعود إلى منزله بعد المدرسة، سالكا طريق البولفار، حاملا كتبه و دفاتره المربوطة بمطاطة. على طول البولفار، (الطريق الذي كان يذهب إلى إيطاليا حيث كانت تعبر سيارات الشحن الثقيلة، الباصات، السيارات في السحاب الصادر عن الغاز المحروق ) كنت أصعد إلى أعلى التلة، بالقرب من الممر الجبلي. قليلا، بعد المنعطف الكبير حيث يعلو صرير العجلات، كنت أرى ذلك البناء المكون من سبعة طوابق على طرف الطريق، كان يشبه سفينة كبيرة فارغة. لم أكن أحبه، إلا أنه بالرغم من ذلك كان هو الذي يجذب ناظري. الطوابق العليا كانت تشبه معبرا للبواخر الفاخرة، كانت فارغة، عمياء. أحيانا كانت الستائر تهتز مع الريح معاكسة للنوافذ، كنت أرى وجها، وجها شاحبا لشبح. لكن كانت الطوابق السفلى، أو، من أجل أن أحدد بشكل أفضل، القبو كان يجذب نظراتي. هنا، تحت الأرض، كان يعيش أناس- كنت لا أفعل شيئا إلا أن أنظر إليهم- كانوا يتجمهرون في زنزاناتهم القاتمة، حيث كانت أضواء المصابيح الكهربائية العارية تلمع حتى في الظهيرة. كان هناك موسيقى، روائح مطبخ، أصوات أطفال، ضحكات، بكاء، كلمات في لغة مجهولة، قاسية وعنيفة، أو أحيانا هادئة، مماثلة للموسيقى.
هي هنا الأن، بالقرب مني، قريبة مني بحيث أنني أستطيع أن ألمسها. تنظر إلي بعيون عميقة، متألقة، بنظراتها التي لا أستطيع أن أهرب منها، لاأستطيع أن أفلت منها، نظرة يختبئ فيها السؤال. ثم أسمع صوتها، تكلمني. تقول كلمات، أسمع صوتها المنخفض، الأجش قليلا، نبرتها الأجنبية - إسباني، روسي، برتغالي؟ تقول: تعال، إظهر، تذكر. أشياء كهذه، تلثغ بالراء، تفخم المقطع الأخير. تدور نحو أمها، هذه العجوز ذات النظرة الخبيثة والتي تتسول من طاولة إلى طاولة، تكلمها في لغة مجهولة، التي أفهم منها، في الحقيقة، كلمات إسبانية،gracia, alabad أوmalpais، لم أعد أعرف. هل عني تتكلم؟ نظرت العجوز إلي، نظرة خاطفة، نظرة مليئة بالحقد، ثم استدارات لتتابع تقدمها بين طاولات المحتفلين غير المبالين.
كانت نظرتها التي عرفتها. هذه النظرة، هي التي أرجعتني إلى الخلف، طويلا، إلى هذا المنزل الأبيض على طرف البولفار. أعود من المدرسة في الشتاء، صاعدا ببطء البولفار المحاذي للبحر، وعندما أعبر المنعطف، يظهر البناء الكبير القذر حيث كان مكتوبا، بأحرف دائرية من قبل الحرب، اسما لا أستطيع نسيانه أبدا، كان شيئا سحريا، بالنسبة لي، متوعدا بضبابية، اسم مكتوبا بهذا الشكل:
جيدكس JUDEX
ألمح البيت الأبيض حيث يعيش الغرباء في قبوهم المظلم. كل مرة أعبر بالقرب منه، قلبي يخفق بسرعة أكبر، بسبب هذه الأصوات، هذه الضجة، بسبب وجوه تلك النساء التي تلمح في النوافذ، أو بسبب طفل يبكي خفية، ليس كالأطفال الأغنياء، ولكن بهدوء ولوقت طويل. في ظهر أحد الأيام فيما كنت أصعد إلى المرتفع، ربما أسرع من المعتاد، دون أن أتوقع، كن هنا: على عتبات المنزل الأبيض في الممر الصغير الذي يؤدي إلى القبو، شريط ضيق مرشوش بالحصى الأبيض المقزز الذي كان الملاك يفرشونه في الحدائق الصغيرة للتلة، كن هنا: العجوز ذات الرداء الأسود، والنظرة الخبيثة، جالسة على كرسي من القش، وأمامها كانت الفتاة الصغيرة منتصبة، نحيفة، في لباسها الأسود، لا تتحرك تبدو كمن ينتظر أحدا أو شيئا ما. وجهها كان كثير الشحوب، يغطيه شعرها الكثيف الأسود، تملؤه عيناها الواسعتان، المتألقتان. عندما أتقدم، تدور نحوي ببطء وتحدق بي، وكاليوم، نظرتها تجتاحني وتحررني، تغيرني. لكن لم يكن من الواجب أن أتكلم عن اليوم،إذ أن اليوم غير موجود. إذا، نظرة ذلك الأمس البعيد المتأججة والحارة هي التي تملأ وجهها الشاحب، نظرة البؤس والسؤال أيضا، والنداء، هذه الأشياء التي لم تتوقف، سنوات بعد سنوات. ظلت في داخلي، كضوء يتوهج ولا يتوقف عن التوهج. أعتقد أني توقفت لحظة من الأثر الذي تركته في، هذه النظرة. أبدا لم أتخيل أن نظرة كهذه ممكن أن توجد، هنا، في هذا المنزل، أريد القول في بؤس هذا القبو المظلم، في السجن الذي كان يعيش فيه العبيد، كما كان يقال. كانت الفتاة ذات الرداء الأسود، تقف في منتصف الممر، لا تتحرك، دون أي انتباه للناس الذين يتراكضون على الرصيف. فقط إلي كانت تحدق، كأني كنت ذلك الشخص الذي كانت تنتظره، اختارتني ،أنا، فقط. كم من الوقت مر وأنا على طرف الرصيف، معلق بنظرتها الطفولية الداكنة الغامضة، والقلب يخفق، دون أن يعلم أي شيء أخر؟ لم أعد أعلم، واليوم أتساءل فيما إذا توقفت حقا" عن أن أكون هناك. أتذكر الآن، بعد مرور كل هذه السنوات- هذه السنوات التي لم تعد تملك أي معنى- أتذكر بأني جئت، أيضا وأيضا، في كل لحظة، أترصد اللحظة التي تخرج فيها الغجرية الشابة من الظل الرطب للقبو كي تبقى مع جدتها على الممشى الحصوي. شمس الشتاء كانت تسطع على ثيابها وعلى شعرها، تشعل لمعانا أكثر دفئا على بشرة وجهها. في أحد الأيام، كان الكرسي فارغا، والفتاة الصغيرة تجلس في مكان جدتها، وعندما رأتني، نهضـت، ركضت نحوي، ثم توقفت، ربما كانت مفزوعة من تصرفها. "هل هي مريضة؟" سألتها ذلك، أظن أنها أجابتني قائلة " لا ، ليس ذلك، كان عليها أن تذهب إلى السوق في المدينة" ، هذه الكلمات التي لا تحمل أهمية كبيرة، كانت تقولها بصوت واضح وبطريقة تشعر بأنها الكلمات الأكثر أهمية في هذا العالم. في الحقيقة، كنت أشعر بشيء أخر، لا علاقة له بكلماتها، يختبئ في نظرتها، في الضوء، في جمال وجهها وجبهتها وشعرها وكتفيها وجسدها الضعيف في الثوب الأسود. " وأين أنت ذاهب؟" أذكر أيضا" الحياء الذي منعني من القول بأن هذا الطريق الذي اتبعه، كل يوم، هو الطريق الذي كان يوصل بين بيت جدتي والمدرسة، طريق تافة، يسرق كل ضرورة للقائنا، عندما يجعله يبدو كحادث تافه على طريق التلاميذ. بدلا من أن أقول لها بأني ذاهب إلى المدرسة، قلت لها: "ذاهب إلى هناك"، أو " يجب أن أمر من هنا". لم تطلب مني ، بماذا أعني بكلمة "هناك". بالمقابل كنت مسرورا بالقول لها باني ذاهب عند جدتي، بأني ذاهب عند جدتي كي أتناول طعام الغداء أو لكي أقضى الليل، لأني أشعر بأني أكثر قربا منها، مثلما تسكن هي مع جدتها لكن هذه العجوز لايمكن مقارنتها مع جدتي، فبينما كانت جدتي رقيقة و حنونا، كانت هي قاسية ومثيرة للفزع، في الأيام التي كانت تقضيها جالسة على الكرسي، كنت اكتفي بابتسامة من عينيي، وكانت الفتاة الصغيرة، ذات الرداء الأسود، تتبعني بنظرتها دون أن تجرؤ أيضا على الحركة وعلى قول أي كلمة، فقط هذا التعبير عن القلق و هذا النداء في نظرتها الداكنة، التي تتبعتني وتجعل قلبي يخفق لوقت طويل بعد أن أعبر المنعطف التالي.
كنت أحب رؤية الفتاة الصغيرة ذات الرداء الأسود، كل مرة أعود فيها من المدرسة، أو أيام السبت والأحد عندما تكون لدي الفرصة للتسكع في حارات الحي. بالرغم من ذلك، لم أتساءل عنها مرة واحدة، لم أسع مرة واحدة، لمعرفة ما الذي تفعله، عندما لا تكون واقفة في الممر الضيق للبناء. كان يجب أن أطرح عليها الأسئلة، أن أستفهم منها عن الأشياء التي تحبها، التي تريدها، وجب أن أترصد الأجوبة في عينيها، أن أسمع خفقات قلبها، أن أصافح يديها الطفوليتين، أن أحاول أن أعطي شيئا ما، أن أقتسم شيئا ما. لكن، أظن من ناحيتي، أنها لم تكن موجودة في الأعماق. كانت شبحا، تجليا، دائما في نفس المكان، على طرف البولفار الجهنمى المليء بهدير الشاحنات و السيارات، في البرد القارص وفي وحدة هذا الممر، في أسفل البناية الكبيرة، أمام تأوهات القبو التي منها كانت تهرب بعض لحظات، على طريقة السجناء الذين يخرجون إلى التنفس في الباحات الفارغة للأبنية المغلقة. أظن أنها كانت، بالنسبة لي، حلما ساحرا وغامضا، خيال ساحر و هش، لكنه خيال يخلو من كل حياة واقعية، مع هذا الحزن وهذه الأسرار التي لا يستطيع الأحياء أن يدركوها. مهرجة، كالفتاة الصغيرة الأخرى التي كنت أراها في مواسم عيد الميلاد، في الساحة الكبيرة التي تعصف بها الريح، نحيفة ومزرقة في سروالها الطويل المزركش، تتلوى أمام أبيها، إبتسامة طريفة متشنجة على وجهها الفقير الذي أضاع طفولته. لكن أنا لم أكن أعرف رؤية هذا، لم أكن أستطيع أن أفهمه. ماكنت أحبه هو الحلم، هذا الخيال الأسود المحموم، هذه النظرة المربوطة بنظرتي مع تواقت يهزني ويمتعني في آن، هذه النظرة الحيوانية البرية التي كنت أكتشفها، والتي لا تشبه شيئا ممايستطيع العالم الحقيقي أن يطلعني عليه، هذه النظرة كانت حبا وموتا ورغبة واعتقادا ومعرفة وافتخارا وازدراء، ربما.....
أذكر الأن، في عمق هذه الصالة الواسعة، الفارغة، المفزعة، تحت نظرة هذه المرأة الشابة المجهولة التي تمحو العالم، أذكر كل لحظة من هذه اللحظات التي كنت أظن أنها منسية. في ظهر أحد الأيام، قبل الصيف، في يوم عاصف ذي سماء زرقاء، بالتأكيد كان يوم أحد، حيث أني في هذا اليوم لا أكون محبوسا في سجن المدرسة، ذهبت إلى المنزل الأبيض الكبير، حتى الممشى الحصوي، لم يكن هناك كرسي القش، أظن أني شعرت بغصة في القلب، عندما ظننت أن العجوز المرعبة والجنية ذات الرداء الأسود لم تعودا موجودتين هنا، أنهما غادرتا. مشيت على الممر الحصوي، محاولا أن أمنع وقع الحذاء. لأي سبب كنت خائفا كل هذا الخوف؟ ربما لم يكن ذلك خوفا، لكن وحدة، في هذا اليوم، مع هذه السماء الواسعة والفارغة، كهذا المكان، في هذه الصالة، والعبور المزعج للسيارات على البولفار، وهذه النوافذ ذات النظرة العمياء التي تربض فوقي، بينما كنت اقترب من باب القبو، فجأة، ظهرت أمامي. الضوء كان يسطع على شعرها وفي عينيها. وللمرة الأولى كانت تبتسم، وجهها كان يوحي بالانطلاق، وبنوع من الفرح البدائي. كان وحيا قويا ومتوهجا في عينيها، لدرجة أني لم استطع أن أرفع عيني إلى عينيها. لم تكن طفلة. كانت امرأة، جاءت نحوي كامرأة،جميلة، حرة، شهية. مشت إلي، لمستني بيديها، بقينا ثابتين للحظة، في فراغ الريح، في وسط الممر الحصوي. لم يعاودني هذا الشعور في مكان أخر، شعور بأني أضعت هيئتي، بأني أصبحت مجرد نظرة، رغبة. بعد ذلك، شيء ما انقطع. شعرت بالخوف، من جديد، لم تكن الوحدة، ولا الفراغ، لكن الخوف من أن أصبح غير مرئي، أن أصبح شخصا أخر، أن يتغير قدري. وجب أن أتراجع، أما هي، الطفلة ذات الرداء الأسود، فقد كان لابد لها أن تشعر بالبرد الذي كان في، الذي يسيطر علي. قالت لي كلمات، حدثتني بصوت فيه قليل من البحة، بصوت طفلة منفعلة، جعلت قلبي يخفق ورمتني في العار. " ماذا هناك؟ ماذا تريد؟" نظرتها اكفهرت بشكل مفاجئ، تستجوبني بإلحاح، تبحث عن الحقيقة في أعماقي، الحقيقة التي لم أرد أن أقولها. فقط، كنت أفكر بالمغادرة، بلحاق أصدقاء الصف الذين كانوا ينتظرونني على أرصفة البحر من أجل لعبة كرة أو بصعود الأدراج حتى منزل جدتي، كي أختبئ في الكنبة من أجل قراءة القواميس في الوقت الذي أنصت فيه لصوت الزوابع وأرقب ضوء الشمس. "ليست موجودة اليوم، و لن تعود قبل المساء." الصبية الغجرية كلمتني أيضا، و الإنفعال يبرز لكنتها الغريبة، الرنانة، الرعناء. "لكن أنا، لا أستطيع البقاء، يجب...." أردت أن أقول شيئا ما، ولم أكن أستطيع أن أجد سببا صالحا. كل هذا لم يعد له أي معنى. حدقت بي بينما كنت أتراجع، الظل كان يوسع مداراته، كما الموت. غادرت بسرعة، في البداية مشيت، ومن ثم ركضت أكثر فأكثر، في سير مضطرب، لاهث، بينما وقع قدمي على أرض البولفار كانت ترن في رأسي. لا أعرف، أين ذهبت، و لم أعد أذكر، في أي الشوارع الخالية بين حدائق المنازل، همت على وجهي، في بعد ظهر ذلك اليوم. لم يبق، اليوم، شي من كل هذا، كله انمحى. فبعد مرور بعض الوقت، تم هدم البناء القديم الذي كان الغجر يستملكون قبوه. عندما سألت، بخجل، رئيس عمال الورشة، فقط رفع ذراعيه. "أين رحلوا؟ كيف تريد أن أعرف؟ رحلوا إلى مكان أخر، أي مكان. إنهم أناس لا يبقون وقتا طويلا في نفس المكان." لم أر مرة أخرى الصبية ذات الرداء الأسود، و لا جدتها ذات النظرة الشريرة. طواهما مرور الزمن، ومحتهما من ذاكراتي التغيرات التي جرت في حياتي.
في هذه الليلة، ظهرتا من جديد، لمدة وجيزة. توقفت المرأة الشابة أمامي، نظرت إلي. ثم استدارت بسرعة، مع تعبير قاس من الازدراء والغضب. الصالة الكبرى الفارغة ترن من جديد بهياج المبتهجين. الموسيقى كانت تخلق جوا من الفرحة الكاذبة، الرومبا كانت تزيد الدوار في جسدي. أما العجوز التي تحمل قفة الورد والمرأة الشابة ذات الرداء الأسود تسللتا، بسرعة، من بين الطاولات، واختفيتا. رأيت خيالهما، كحلم، أمام الباب، ثم غاصتا في الليل.