ليلابي

 

1

 

في اليوم الذي قررت فيه ليلابي عدم الذهاب إلى المدرسة- من أواسط تشرين الأول- نهضت من فراشها، اجتازت، بأقدامها العارية، غرفتها وباعدت بين شفرات الستارة لترى الخارج. كان الوقت لا يزال باكرا، والجو مشمسا، وبانحناءة صغيرة، استطاعت رؤية جزء من السماء الزرقاء. في الأسفل، على الرصيف، ثلاث أو أربع حمامات تتقافز، تشعث ريشها من الريح، من فوق أسقف السيارات المتوقفة. كان البحر أزرق داكنا، وكان هناك شراع أبيض يتقدم بمشقة. تنظر ليلابي إلى كل هذا، فتشعر بالراحة لقرارها عدم الذهاب إلى المدرسة.

عادت إلى وسط الغرفة، وجلست أمام طاولتها، ودون إضاءة المصباح بدأت تكتب رسالة:

بابا العزيز،

صباح الخير ،

الجو لطيف، والسماء كما أحبها صافية جدا جدا....أحب أن تكون هنا لرؤية السماء. البحر أيضا صاف جدا جدا. قريبا سيجيء الشتاء. هاهي سنة طويلة أخرى تبدأ. أتمنى لو تستطيع المجيء قريبا لأني لاأعلم فيما إذا البحر والسماء يستطيعان انتظارك طويلا. هذا الصباح عندما استيقظت( حدث هذا منذ أكثر من ساعة) ظننت من جديد أني كنت في استامبول. أحب أن أغلق عيني وحينما أفتحهما أجد نفسي في استامبول. أتذكر؟ كنت قد اشتريت باقتين من الزهور، واحدة كانت لي والأخرى كانت للأخت لورانس.أزهار كبيرة بيضاء، رائحتها قوية( ألهذا اسميناها الأريج؟) كانت رائحتها قوية حتى أننا اضطررنا لوضعها في صالة الحمام. قلت أننا نستطيع شرب الماء في الداخل، وأنا ذهبت إلى صالة الحمام وشربت لوقت طويل، وأزهاري كلها تلفت. أتذكر؟

توقفت ليلابي عن الكتابة. عضعضت للحظة طرف قلمها "البيغ" الأزرق، وهي تنظر إلى ورقة الرسالة. إلا أنها لم تكن تقرأ. كانت فقط تنظر إلى بياض الورق، متخيلة أن شيئا ما ربما سيظهر، كالطيور في السماء، أو كقارب صغير يعبر ببطء.

نظرت إلى المنبه على الطاولة: الثامنة وعشر دقائق. كان منبه سفر صغيرا، مغطى بجلد عظاية سوداء، لا حاجة لربطه إلا كل ثمانية أيام.

كتبت ليلابي على الورقة.

بابا العزيز،

أريدك أن تحضر لتأخذ المنبه. أنت أعطيتني إياه قبل أن أغادر طهران، ماما والأخت لورانس قالا بأنه جميل جدا. أنا أيضا أجده كذلك، إلا أني، الآن، أظن أني لم أعد بحاجة إليه. لأجل ذلك أريدك أن تأتي لتأخذه. سيفيدك من جديد. إنه يعمل جيدا. لا يصدر أي صوت في الليل.

وضعت الرسالة في مغلف بريد جوي. قبل أن تغلقه، بحثت عن شيء ما لتضعه في داخله. إلا أنها لم تجد شيئا على الطاولة سوى أوراق، كتب، فتات من البسكويت. كتبت العنوان على الغلاف:

.

السيد بول فرلاند

84, شارع فردوسي

طهران إيران

وضعت المغلف على طرف الطاولة، وذهبت بسرعة إلى الحمام كي تنظف أسنانها ووجهها. كانت ترغب بالاغتسال بالماء البارد، إلا أنها خافت من أن يوقظ الضجيج أمها. دائما بأقدام عارية عادت إلى غرفتها. لبست، على عجل، كنزة صوفية خضراء، بنطلون مخمليا بنيا، وسترة كستنائية. ومن ثم ارتدت جواربها وحذاءها الطويل ذا النعل المطاطي. مشطت شعرها الأشقر دون أن تنظر إلى المرآة، ووضعت في حقيبتها كل ماوجدته حولها، على الطاولة والكرسي: أحمر الشفاه، مناديل ورقية، قلم حبر ناشف، مفاتيح، أنبوبة أسبرين. لم تكن تدري تماما ما هي بحاجة إليه، تلقي نظرة على الفوضى التي تراها في غرفتها: إيشارب أحمر ملفوف بشكل مكور، إطار قديم من فرو، مدية، كلب صغير من البورسلين. في الخزانة، تفتح علبة وتأخذ مجموعة من الرسائل. في علبة أخرى، وجدت رسما كبيرا ثنته ووضعته في حقيبتها مع الرسائل. في جيب معطفها المطري، بعض النقود الورقية وحفنة من القطع النقدية والتي أسقطتها أيضا في حقيبتها. في لحظة الخروج، عادت إلى الطاولة وأخذت الرسالة التي كتبتها. وفتحت الدرج اليساري وبحثت بين الأشياء والأوراق إلى أن وجدت هارمونيكا صغيرة كتب عليها:

ECHO Super

Vamper

MADE IN GERMANY

وحفر بحد السكين:

David

نظرت إلى الهارمونيكا لثانية، ثم أسقطتها في الكيس، وضعت حمالة الحقيبة على كتفها الأيمن وخرجت.

في الخارج، كانت الشمس حارة، والسماء والبحر لامعين. بحثت ليلابي بعينيها عن الحمام، إلا أنه كان قد اختفى. في البعيد، قريبا من الأفق، كان الشراع الأبيض يتحرك ببطء، متمايلا على البحر.

شعرت ليلابي بقلبها يخفق بشدة. كانت مضطربة والصخب يملأ صدرها. لماذا كانت في هذه الحالة؟ ربما كان كل ضوء السماء يسكرها. وقفت ليلابي على الدرابزين، ضامة ذراعيها بقوة على صدرها. وتمتمت بشيء من الغضب:" إن هذا يضايقني.."

ثم سارت في طريقها، محاولة أن لا تنتبه لاضطرابها.

كان الناس يتجهون إلى أعمالهم. يقودون سياراتهم بسرعة، على طول الشارع، باتجاه مركز المدينة. وكانت الدراجات النارية تتسابق بضجيج محركاتها. كانت العجلة بادية على راكبي السيارات الجديدة ذات النوافذ المغلقة. عندما يعبرون، يلتفتون قليلا ليروا ليلابي. بل كان هناك رجال يضغطون على زمامير سياراتهم، دون أن تعيرهم ليلابي أي انتباه.

هي أيضا، كانت تمشي بعجلة على طول الشارع، دون أن تصدر صوتا بكعبيها المطاطيين. كانت تسير بالاتجاه المعاكس، نحو التلال والصخور. كانت تنظر إلى البحر، مطبقة عينيها لأنها نسيت أن تأخذ نظارتها السوداء. كان يبدو أن المركب الشراعي الأبيض يتبع نفس اتجاهها، بشراعه الكبير المتساوي الساقين والذي نفخته الريح. أثناء مسيرها، كانت ليلابي تنظر إلى البحر والسماء الزرقاء، والشراع الأبيض، وصخور الرأس البحري، كانت مسرورة جدا لقرارها عدم الذهاب إلى المدرسة. كل شيء جميل جدا، كأنما المدرسة لم تكن موجودة أبدا.

كانت الريح تعبث بشعرها وتشبكه، ريح باردة تلسع عينيها وتصيب جلد وجنتيها ويديها بالاحمرار. كانت تفكر بأنه شيء رائع السير بهذا الشكل، تحت الشمس وفي الريح، دون أن تعرف إلى أين تمضي.

عندما خرجت من المدينة، وصلت أمام طريق المهربين.كان الطريق يبتدئ في وسط أجمة صنوبر، نازلا على طول الشاطئ، حتى الصخور. البحر هنا أكثر جمالا، واسع، مشبع بالضوء.

كانت ليلابي تتقدم في طريق المهربين، ملاحظة أن البحر أصبح أكثر قوة.كانت الأمواج القصيرة تصطدم بالصخور التي بدورها ترسل موجات مضادة، تتقعر، تعود. توقفت الفتاة على الصخور كي تصغي إلى البحر. كانت تعرف جيدا هديره، الماء يتلاطم، يتفتت، ثم يتحد ويفجر الهواء، تحب هذا كثيرا. لكن اليوم، يبدو الأمر كما لو أنها تسمعه للمرة الأولى. لا يوجد شيء غير الصخور البيضاء، البحر، الريح، الشمس. كما لو أنها على قارب، بعيدا في عمق البحر، هناك حيث تعيش أسماك التون والدلافين.

لم تعد ليلابي تفكر بالمدرسة. البحر هكذا: يمحو أشياء الأرض، لأنه يحوي الأشياء الأكثر نفاسة في العالم. الأزرق والضوء الشاسعان، الريح، هدير الأمواج العنيف والهادئ، كان البحر يشبه حيوانا كبيرا، حيوانا يقلب رأسه ويسوط الهواء بذيله.

إّذا، كانت ليلابي في أحسن أحوالها. ظلت جالسة على صخرة ملساء، على طرف طريق المهربين، وتنظر. كانت ترى الأفق الصافي، الخط الأسود الذي يفصل البحر عن السماء. نسيت الشوارع، المنازل، السيارات، الدراجات النارية.

ظلت لوقت طويل على صخرتها. ثم أخذت طريقها. لم يعد هناك منازل، المنازل الأخيرة أصبحت خلفها. استدارت ليلابي كي تراها، وجدتها مضحكة بشبابيكها المغلقة على واجهاتها البيضاء، كما لو أنها كانت تنام. هنا، لا توجد حدائق. بين الحصى، نباتات كثيفة غريبة، كرات شوكية واخزة، صبار أصفر مغطى بندبات شوكية، عليق، عرائش. لاأحد يعيش هنا. كانت هناك فقط العظايا تركض بين الصخور، واثنان أو ثلاثة من الزنابير التي تطير فوق الأعشاب، التي لها رائحة العسل.

تشتعل الشمس بقوة في السماء. والصخور البيضاء تلمع، والزبد كان فاتنا كالثلج. يكون المرء سعيدا، هنا، كما لو أنه في آخر العالم. لا ينتظر شيئا، لا يحتاج لأحد.نظرت ليلابي إلى الرأس البحري الذي كان يكبر أمامها، الجرف الصخري مكسور عموديا على البحر. كان طريق المهربين يصل إلى حصن ألماني، مما يقتضي النزول إلى أخدود ضيق، تحت الأرض. داخل النفق، أصاب الهواء البارد الفتاة بقشعريرة. كان رطبا وداكنا كما لو أنها في مغارة. جدران الحصن مليئة برائحة العفونة والبول. أما الطرف الأخر من النفق، فقد كان ينفتح على مصطبة إسمنتية محاطة بجدار منخفض. نبت قليل من العشب في شقوق الأرض.

أغلقت ليلابي عينيها، مبهورة بالضوء. كانت تماما تواجه البحر والريح.

فجأة، على جدار المصطبة، وجدت الإشارات الأولى. كانت كتابة بالطباشير، بأحرف كبيرة غير منتظمة تقول فقط:

"أعثروا علي"

نظرت ليلابي حولها للحظة، بعد ذلك قالت بصوت منخفض:

" نعم، لكن من أنت؟"

عبر خطاف بحر كبير فوق المصطبة زاعقا.

هزت ليلابي كتفيها، ومضت في طريقها. أصبح طريق المهربين أكثر صعوبة، لأنه كان قد دمر، ربما خلال الحرب الأخيرة، من قبل الذين بنوا الحصن. كان يقتضي الأمر الصعود والقفز من صخرة إلى أخرى، بمساعدة اليدين كيلا تنزلق. أصبح الشاطئ أكثر وعورة، وفي الأسفل، كانت ليلابي ترى الماء عميقا، بلونه الزمردي، يلاطم الصخور.

لحسن الحظ، كانت تحسن السير جيدا على الصخور، بل كانت أفضل دراية بذلك من أي شيء اخر. يجب أن تخمن ، بسرعة، بنظراتها، رؤية المعابر الصالحة، الصخور التي يمكن الصعود عليها أو النزول منها، أن تكشف الطرق التي تقود إلى الأعلى: يجب تجنب الطرق المسدودة، الصخور الهشة، الصدوع، أدغال الشوك.

ربما يصلح هذا أن يكون تمرينا لدروس الرياضيات. " لنأخذ صخرة بزاوية 45°، ولنأخذ صخرة أخرى على بعد 2.5 م من باقة وزال_ ( جنبة صفراء الزهر من فصيلة القرنيات الفراشية)، من أين يمر المماس؟" الصخور البيضاء شبيهة بمكتب خشبي، تخيلت ليلابي الوجه القاسي للآنسة لورتي جالسة فوق صخرة كبيرة بشكل شبه منحرف، وظهرها ملتفت نحو البحر. ربما لا يكون هذا، حقا، مسألة لدروس الرياضيات. هنا، يقتضي الأمر قبل كل شيء تخمين أماكن الخطورة. " رسم خط عمودي على الأفق من أجل الاستدلال بوضوح على الاتجاه" هكذا كان يقول السيد فيليبي. كان منتصبا بتوازن على صخرة مائلة، مبتسما ابتسامة متسامحة. كان شعره يبدو كتاج تحت ضوء الشمس، وخلف نظارته الحسيرة البصر، كانت عيناه الزرقاوان تلمعان بغرابة.

كانت ليلابي مسرورة لاكتشافها بأن جسدها يجد الحل بسهولة للمسائل. تنحني إلى الأمام، إلى الخلف، تتوازن على ساق واحدة، ومن ثم تقفز بمرونة، كانت قدماها تهبطان، تماما، في المكان المراد.

" جيد جدا، يا آنسة، جيد جدا" يقول صوت السيد فيليبي في أذنها " الفيزياء علم الطبيعة، لا تنسي هذا أبدا. تابعي بهذا الشكل، أنت على الطريق الصحيح."

"نعم، لكن إلى أين؟"تتمتم ليلابي. في الحقيقة، لم تكن تعرف، بشكل جيد، إلى أين يقودها هذا الطريق. ولكي تلتقط أنفاسها، وقفت أيضا ونظرت إلى البحر، إلا أنه هنا، أيضا، توجد مشكلة، مادام أنه يراد حساب زاوية انكسار ضوء الشمس على سطح الماء.

" لن أعرف أبدا"، تقول في داخلها.

"لنضع في التطبيق قوانين ديكارت" يصيح صوت السيد فيليبي في أذنها.

بذلت ليلابي جهدا كي تتذكر.

" الشعاع المنعكس...."

"....يبقى دوما على مستوى السقوط"، قالت ليلابي.

بقول فيليبي:

"جيد. القانون الثاني؟"

" عندما تزداد زاوية السقوط، فإن زاوية الانعكاس تزداد والنسبة بين جيبي هاتين الزاويتين تبقى ثابتة."

" ثابتة.."، يصيح الصوت "إذا ؟"

" جيب زاوية السقوط / جيب زاوية الانعكاس = ثابت

"معامل الماء/الهواء ؟"

" 1.33"

" قانون فوكو؟"

" معامل وسط بالنسبة لأخر يساوي نسبة السرعة للوسط الأول على سرعة الوسط الأخر."

" من هنا؟"

"N=v1/v2"

إلا أن أشعة الشمس كانت تتدفق من البحر دون توقف، وكان العبور من حالة انكسار الأشعة إلى حالة ارتداد الأشعة الكامل يتم بسرعة، بحيث أن ليلابي لا تستطيع أن تقوم بحساباتها. خطر ببالها أن تكتب فيما بعد إلى السيد فيليبي، كي تسأله.

الجو حار. بحثت الفتاة عن مكان تستطيع أن تستحم فيه. فوجدت، على بعد مسافة قصيرة، خليجا صغيرا، يحتوي على أنقاض رصيف. نزلت ليلابي إلى حافة الماء وخلعت ملابسها.

كان الماء صافيا، باردا. غطست ليلابي دون تردد، شعرت بالماء وهو يضغط على مسامات جلدها. سبحت للحظة طويلة تحت الماء، بعينين مفتوحتين. ثم جلست على اسمنت الرصيف كي تجفف جسدها. الآن، الشمس في محورها الشاقولي، والضوء لم يعد يرتد. يلمع بقوة على القطرات المعلقة بجلد بطنها وعلى الزغب الناعم لفخذيها.

جعلها الماء البارد تشعر بالراحة. غسل أفكار رأسها، ولم تعد تفكر بمسائل المماسات ولا بالمعاملات المطلقة للأجسام. كانت ترغب أيضا بكتابة رسالة لوالدها. أحضرت ورق الرسائل من حقيبتها، وبدأت تكتب بقلم ناشف، تماما في أسفل الصفحة. تاركة أثارا على الورقة من يديها المبلولتين.

"ليبي

أعانقك

تعال بسرعة لتراني هنا حيث أكون.."

ثم كتبت في وسط الصفحة:

" ربما أقوم ببعض الحماقات. لا استحق أن يحقد علي. كان لدي الانطباع بأني مسجونة. إنك لا تستطيع أن تدرك ذلك. ربما تدرك كل ذلك، إلا أنك تملك الشجاعة للبقاء، ليس أنا. تخيل كل هذه الجدران في كل مكان، جدران كثيرة لا تستطيع عدها، مع الأسلاك الحديدية الشائكة، الأسيجة، قضبان النوافذ....تخيل الباحة بكل هذه الأشجار التي أكرهها، أشجار الكستناء، الزيزفون، الدلب. خصوصا، الدلب البغيض، تفقد بشرتها، ويقال إنها مريضة..."

قليلا إلى الأعلى، كتبت:

" أتدري..هناك الكثير من الأشياء التي أريدها. هناك الكثير، الكثير، الكثير.

أشياء أريدها، لاأدري إذا كنت أستطيع أن أذكرها لك. أشياء تفتقد كثيرا هنا، أشياء كنت أحبها منذ زمن بعيد. العشب الأخضر، الزهور والطيور، الأنهار. لو كنت هنا، لاستطعت أن تكلمني عنها وأن أراها حولي، لكن في المدرسة الثانوية، لا يوجد أحد يستطيع أن يتكلم عن هذه الأشياء. الفتيات غبيات ليس لديهن غير البكاء...والفتيان حمقى.. لا يحبون إلا دراجاتهم النارية وستراتهم..."

تصعد إلى أعلى الصفحة.

" بابا العزيز،

نهار سعيد. اكتب لك من شاطئ صغير جدا، أنه حقا صغير، لدرجة أني أعتقد أنه شاطئ بمكان واحد مع رصيف مدمر عليه أجلس الآن( بعد أن استحممت). يريد البحر أن يأكل الشاطئ الصغير، يرسل لسانه إلى العمق، ولا توجد طريقة كي يبقى جافا..سترى الكثير من بقع ماء البحر على رسالتي، أتمنى أن يرضيك هذا. إني وحدي هنا، إلا أني أستمتع بشكل جيد. الآن، لن أعاود الذهاب إلى المدرسة أبدا، هذا قرار نهائي. لن أذهب أبدا، حتى ولو وضعت في سجن. وهذا لن يكون الأسوأ."

لم يبق كثير من الفراغ على الورقة. لذلك، أخذت ليلابي تتسلى بسد الفراغات الواحد بعد الأخر، بكتابة كلمات، مقاطع عبارات، دون ترابط:

" البحر أزرق"

" شمس"

" أرسل لي السحلبيات البيض"

" يا للأسف لا توجد هنا أكواخ من الخشب"

" أكتب لي"

" هناك قارب يعبر، إلى أين هو ذاهب يا ترى؟"

"أريد أن أكون على جبل كبير"

" قل لي، كيف يكون الضوء عندك"

" كلمني عن صيادي المرجان"

" كيف حال سلوقي"

وتغلق الفراغات البيضاء الأخيرة بكلمات:

" طحالب"

" مرآة"

" بعيد"

" حباحب"

" رالي"

" رقاص"

" كزبرة"

" نجمة"

بعد ذلك ثنت الورقة ووضعتها في المغلف، مع ورقة عشب برائحة العسل.

حين صعدت عبر الصخور، رأت للمرة الثانية إشارات غريبة مكتوبة بالطبشور على الصخور. كان هناك أيضا أسهم كي تشير إلى الطريق. على صخرة ملساء كبيرة، قرأت:

" لا تتراجع ..."

وعلى مسافة قصيرة:

" ربما سينتهي كل هذا في ذيل سمكة"

نظرت ليلابي، من جديد، حولها، فلم تر أحدا بين الصخور، أيضا في البعيد حيث تستطيع الرؤية. تابعت طريقها. تسلقت، عاودت النزول، قفزت فوق الشقوق، إلى أن وصلت في النهاية إلى طرف الرأس البحري، حيث كان هناك، هضبة حجارة، والمنزل اليوناني.

وقفت ليلابي، مذهولة. أبدا لم تر منزلا بهذا الجمال. بني وسط الصخور والنباتات الكثيفة، مواجها البحر، مربع وبسيط مع شرفة مسنودة بستة أعمدة، كان يشبه معبدا صغيرا. بياضه فاتن، جاثم مقابل الجرف الشديد الانحدار، والذي يحميه من الريح والنظرات.

اقتربت ليلابي، ببطء، من المنزل، بقلب يخفق بقوة. لم يكن هناك أحد، لابد أنه مهجور منذ سنين، لأن الأعشاب والعرائش غزت الشرفة، والأرجوانيات تلتف تحيط الأعمدة.

حين أصبحت قريبة من المنزل، رأت كلمة محفورة فوق البوابة، في جبصين أعمدة الواجهة:

CARISMA

قرأت ليلابي الاسم بصوت عال، معتقدة أنه لا يوجد أبدا منزل له جمال هذا الاسم.

كان المنزل محاطا بسياج شبكي صدئ. مشت ليلابي بمحاذاة السياج كي تجد مدخلا. إلى أن وصلت إلى مكان، كان فيه السياج مرفوعا، ومن هناك عبرت على أربع. لم تكن خائفة، كل شيء كان صامتا. مشت ليلابي في الحديقة إلى أن وصلت إلى سلم الشرفة، ووقفت أمام بوابة المنزل. بعد لحظة تردد، دفعت الباب. كان داخل المنزل مظلما، مما دعاها أن تنتظر حتى تتعود عيناها الرؤية. رأت غرفة واحدة بجدران تالفة، وبأرضية مليئة ببقايا خرق قديمة وجرائد. كان داخل المنزل باردا. دون شك، لم تكن النوافذ مفتوحة منذ سنين. حاولت ليلابي فتح أحد أبواب النوافذ، إلا أنه كان مستعصيا على الفتح. حين اعتادت عيناها على العتمة، رأت ليلابي أنها لم تكن الوحيدة التي دخلت إلى هنا. كانت الجدران مغطاة برسوم فاحشة. مما جعلها تغضب، كما لو أن المنزل، كان حقا منزلها. حاولت مسح الرسوم بخرقة. ثم خرجت إلى الشرفة، وسحبت بقوة الباب مما جعل مقبض الباب ينكسر، وجعلها تقع.

إلا أنه من الخارج، كان المنزل جميلا. جلست ليلابي على الشرفة مستندة إلى أحد الأعمدة، ومحدقة إلى البحر أمامها. كان شيئا جميلا، فقط هدير الماء والريح التي تهب بين الأعمدة البيضاء. بين الأعمدة المنتصبة، كان البحر والسماء يبدوان دون حدود. لم تعد هنا الأرض، لم يعد لها جذور. كانت الفتاة تتنفس ببطء، بظهر منتصب وبرقبة مستندة إلى عمود معتدل الحرارة، وفي كل مرة تستنشق الهواء فيها، كانت كما لو أنها ترتفع في السماء الصافية، فوق البحر. وكان الأفق كخط رقيق ينحني كقوس، والضوء يرسل أشعته المستقيمة، كما لو أنها في عالم أخر، على حافة موشور.

كانت ليلابي تنصت إلى صوت يأتي من الريح، يتحدث قرب أذنيها. لم يكن صوت السيد فيليبي، لكنه صوت قديم جدا، اجتاز السماء والبحر. صوت رقيق وخفيض يتردد حولها، في الضوء الحار يردد اسمها القديم، الاسم الذي سماها به والدها ذات يوم، قبل أن تغفو.

" أريل...أريل..

بهدوء، ثم شيئا فشيئا بصوت مرتفع، كانت ليلابي تغني الهواء الذي لم تنسه منذ سنين كثيرة:

"أرشف أينما يرشف النحل

في أجراس الربيع أستلقي:

هناك أستلقي حين تصرخ البوم.

على ظهر الخفاش أطير

بعد الصيف، بمرح:

سأعيش الأن،تحت الأزهار التي تتدلى على الغصن، بمرح،بمرح"_

كان صوتها المضيء يذهب إلى الفضاء الطلق، يحملها فوق البحر. كانت ترى كل شيء، وراء الشطآن الغامضة، وراء المدن، الجبال. كانت ترى طريق البحر العريض، حيث تتقدم خطوط الأمواج، كانت ترى الطرف الأخر من البحر، الشريط الطويل للأرض الرمادية والداكنة حيث تنمو غابات الأرز، بل أكثر بعدا، كالخيال، الذروة الثلجية لكاها يالبور.

ظلت ليلابي لوقت طويل جالسة مستندة إلى الأعمدة، تنظر إلى البحر وتغني لنفسها كلمات أغنية أريل، وأغاني أخرى، التي ابتكرها والدها. ظلت إلى أن أصبحت الشمس قريبة من خط الأفق، وإلى أن أصبح البحر بنفسجيا.

غادرت المنزل اليوناني، متبعة طريق المهربين في اتجاه المدينة. حين وصلت إلى جانب الحصن، لمحت فتى صغيرا عائدا من الصيد. التفت لينتظرها.

" مساء الخير..."، قالت ليلابي.

" مرحبا..." قال الفتى.

على وجهه تبدو علامات الجدية، يخفي عينيه بنظارة. كان يحمل سنارة كبيرة وكيس صيد، ويعلق حذاءه حول عنقه كي يمشى.

مشيا معا، يتكلمان. عندما وصلا إلى أخر الطريق، كان قد بقي للنهار عدة دقائق، لذلك جلسا على الصخور لرؤية البحر. لبس الفتى حذاءه. وروى لليلابي قصة نظارته. فقال إنه في يوم من الأيام، منذ سنين عديدة، أراد رؤية كسوف الشمس ومنذ ذلك الوقت تركت له الشمس علامة في عينيه.

أثناء هذا الوقت، اختفت الشمس. ورأيا المنارة تضاء، ثم مصابيح وأضواء مواقع الطائرات. أسود الماء. فنهض الفتى أولا. التقط سنارته وكيسه وأشار لليلابي قبل أن يغادر.

حين ابتعد قليلا، صرخت ليلابي:

" غدا، ارسم لي صورة.."

هز الفتى رأسه، مجيبا:نعم.

 

 

2

 

 

منذ أيام وليلابي تذهب ناحية المنزل اليوناني. كانت تحب اللحظة التي تعقب القفز على كل الصخور، تلهث بقوة من الركض والتسلق في كل مكان، تمتلئ نشوة من الريح والضوء، ترى مقابل الجرف، انبثاق الظل الأبيض الغامض الذي يشبه قاربا مربوطا. في تلك الأيام ، كان الجو لطيفا، السماء والبحر أزرقان، والأفق صاف بحيث يمكن رؤية ذرى الأمواج. حين تصل ليلابي أمام المنزل، تقف وقلبها يخفق بسرعة وبقوة، شاعرة بحرارة غريبة في عروق جسدها، بالتأكيد أن هناك سرا في هذا المكان.

كانت الريح تهب مباغتة، وكانت ليلابي تشعر بضوء الشمس الذي يغطيها برقة، مكهربا بشرتها وشعرها. تتنفس بعمق أكثر، كما لو أنها ستسبح طويلا تحت الماء.

ببطء، تدور حول السياج، إلى أن تصل المدخل. كانت تقترب من المنزل ، وهي تنظر إلى الأعمدة الستة التي ابيضت بفعل الضوء.

وبصوت عال، كانت تتفوه بالكلمة السحرية المكتوبة في جبصين الواجهة، ربما بسبب هذه الكلمة كانت تشعر بهذا القدر من السلام والضوء:

"KARISMA"

كانت الكلمة تشع في داخل جسدها، كما لو أنها كانت مكتوبة في داخلها، أو كما لو أن الكلمة تنتظرها. كانت ليلابي تجلس على أرض الشرفة، مستندة إلى العمود اليميني الأخير، ناظرة إلى البحر.

كانت الشمس تحرق وجهها. وأشعة الضوء تخرج من جسدها، من أصابعها، من عيونها، من فمها، من شعرها، منضمة إلى لمعان الصخور والبحر.

الصمت يملأ المكان، صمت كبير وقوي، مما يدخل الانطباع إلى ليلابي بأنها ستموت. بسرعة، تخرج الحياة منها وتغادر، ذاهبة إلى السماء والبحر. كان ذلك عسيرا على الفهم، إلا أن ليلابي كانت متأكدة أن الموت يحدث هكذا. يبقى جسدها حيث هو، في وضع الجلوس، الظهر مسنود على العمود الأبيض، مغطى بالحرارة والضوء. إلا أن الحركة تغادرها، تذوب أمامها. لا تستطيع أن تمسك بها. تشعر بكل شيء يغادرها، يبتعد عنها بسرعة كبيرة كطيران الزرازير، كاندفاعات الغبار. كل حركتها: حركة ذراعيها وساقيها، اضطرابها الداخلي، القشعريرة، الرجفة. كل هذا يغادرها بسرعة، إلى الأمام، مرميا إلى الفضاء نحو الضوء والبحر. كان شيئا رائعا، لم تكن تقاومه. لم تكن تغلق عينيها. تتسع حدقتاها، تنظر أمامها، دون أن ترمش، دائما إلى نفس النقطة، إلى الخط الرقيق للأفق، هناك حيث الثنية التي تفصل السماء والبحر.

يتباطأ تنفسها شيئا فشيئا، وفي صدرها، يباعد القلب بين دقاته، ببطء، ببطء. تبدو كما لو أن الحياة قد غادرتها، فقط، نظرتها التي تتسع،التي تنمزج في الفضاء كحزمة ضوء. تشعر ليلابي بجسدها ينفتح برقة، كباب، وتنتظر الانضمام إلى البحر. تعرف بأنها سترى كل هذا، قريبا، لذلك، لا تفكر بشيء، لا تريد أي شيء أخر. جسدها يبقى بعيدا في الخلف، يصبح شبيها بالأعمدة البيضاء وبالجدران المغطاة بالجبصين ساكنا، صامتا. هذا هو سر المنزل. الوصول إلى أعلى البحر، تماما، إلى قمة الجدار الكبير الأزرق، إلى المكان الذي تستطيع منه رؤية الشاطئ الأخر. كانت نظرة ليلابي تتسع، تطير في الهواء، على الضوء، فوق الماء.

لم يكن جسدها باردا كالموتى في غرفهم. كان الضوء يتابع الدخول إلى عمق أحشائها، إلى مخ عظامها، كانت تعيش بنفس حرارة الهواء، كالعظايا.

كانت ليلابي كغيمة، كغاز، اختلطت بكل ما حولها. كانت كرائحة الصنوبر المسخن بحرارة الشمس، على التلال، كرائحة عشب برائحة العسل.كان رذاذ أمواج حيث يزدهي قوس قزح، كانت الريح، النسمة الرطبة القادمة من البحر، النسمة الحارة كأنفاس الأرض المخمرة على سفح الأدغال. كانت كالملح، الملح الذي يلمع كالندى الفضي على الصخور العتيقة، أو كملح البحر، الملح الثقيل الحريف في أودية ما تحت البحار. لم يعد هناك ليلابي واحدة جالسة على شرفة منزل يوناني عتيق يعمه الخراب. تعددت ليلابي كبريق الضوء على الأمواج.

كانت ليلابي ترى بكل عيونها، من كل الجهات. كانت ترى أشياء لم تكن لتتخيلها. أشياء صغيرة جدا، مخابئ حشرات، دهاليز الدود. كانت ترى أوراق نباتات كثيفة، جذورا. كانت ترى أشياء كبيرة جدا، ما وراء الغيوم، النجوم خلف قبة السماء، المجموعات القطبية، الأودية الكبيرة للبحر اللانهائية العمق. كانت ترى كل هذا في اللحظة ذاتها، كل نظرة كانت تستمر أشهرا، سنوات. كانت ترى دون أن تفهم، لأن الذي كان يجوب الفضاء أمامها، حركة جسدها المنفصلة عنه.

كان ذلك كما لو أنها استطاعت، بعد الموت، معاينة القوانين التي تشكل العالم. كانت قوانين غريبة، لا تشبه إطلاقا القوانين المكتوبة في الكتب، والتي نتعلمها عن ظهر قلب في المدرسة. كان هناك قانون الأفق الذي يجذب الجسد، قانون طويل جدا ورقيق جدا،شعاع واحد قاس يوحد طبقتي السماء والبحر. هناك، كان كل شيء يولد، يتضاعف مشكلا أسراب أرقام وإشارات، تحجب الشمس وتبتعد نحو المجهول. كان هناك قانون البحر، دون بداية ولانهاية، حيث تتكسر أشعة الضوء. كان هناك قانون السماء، قانون الريح، قانون الشمس، قوانين لا يمكن فهمها، لأن إشاراتها لا تنتمي إلى البشر.

فيما بعد، عندما استيقظت ليلابي، حاولت تذكر الذي رأته. أرادت كتابة كل هذا للسيد فيليبي، ربما يستطيع أن يفهم معاني هذه الأرقام و الإشارات. إلا أنها لم تجد غير فتات عبارات، رددتها عدة مرات بصوت عال:

" هنا حيث نشرب البحر"

" نقاط ارتكاز الأفق"

" عجلات ( أو طرق) البحر"

هزت كتفيها، لأن هذا لم يكن ذا معنى.

غادرت ليلابي، بعد ذلك، مكانها، خرجت من حديقة المنزل اليوناني ونزلت نحو البحر. عادت الريح بغتة، فأطارت شعرها وثيابها، كما لو أنها أرادت أن تعيد ترتيب كل شيء.

كانت ليلابي تحب هذه الريح. أرادت أن تعطيها شيئا ما، لأن الريح، غالبا، تحتاج إلى أن تأكل، أوراق شجر، غبارا، قبعات الرجال، أو قطرات الماء التي تنتزعها من البحر أو الغيوم.

كانت ليلابي تجلس في تجويف صخرة، بالقرب من الماء حيث كانت الأمواج تأتي لتلامس قدميها. كانت الشمس ساطعة فوق البحر، كانت تبهرها بانعكاسها على جوانب الأمواج.

لم يكن هناك أحد غير الشمس والريح والبحر، أخذت ليلابي علبة الرسائل من حقيبتها. كانت تسحبها رسالة، رسالة مبعدة الخيط المطاطي، كانت تقرأ عدة كلمات، عدة عبارات، دون تعيين. كانت أحيانا لا تفهم شيئا، فتعيد القراءة بصوت عال ليكون ذلك أكثر صدقا.

"... القماش الأحمر الذي يرفرف كالأعلام..."

"النرجس الأصفر على مكتبي، بالقرب من نافذتي، هل ترينه يا أريل؟"

" أسمع صوتك تتكلمين في الهواء...."

"...أريل، هواء أريل..."

"من أجلك، من أجل أن تذكري دائما"

كانت ليلابي تلقي الأوراق في الريح. كانت تطير بسرعة مع صوت تمزيقها، تطير للحظة فوق البحر، بترنح كالفراش في الزوبعة. أوراق رسائل متشحة بالزرقة، تختفي فجأة في البحر. كان ممتعا إلقاء هذه الأوراق في الريح، بعثرة هذه الكلمات، كانت ليلابي ترى الريح تأكلها ببهجة.

كانت ليلابي راغبة بإشعال نار. بحثت بين الصخور عن مكان لا تهب فيه الريح بقوة. وعلى بعد مسافة قصيرة وجدت الخليج الصغير ذا الميناء المهدم، لتستقر فيه.

كان مكانا جيدا لإشعال النار. كانت الصخور البيضاء تحيط بالميناء، وهبات الريح لاتصل إلى هنا. في قاعدة الصخرة، كان تجويف جاف وحار، وسرعان ما ارتفع اللهب، خفيفا، فاقعا، مع رجفة ناعمة. كانت ليلابي تلقي فيها دون توقف أوراقا جديدة، تشتعل بسرعة لأنها كانت جافة ورقيقة، وسرعان ما تتلاشى.

شيء ممتع رؤية الأوراق الزرقاء تتلوى في النار، والكلمات تهرب متقهقرة إلى جهة مجهولة. خطر في بال ليلابي أن أباها يحب أن يكون هنا لرؤية احتراق رسائله. لأنه لا يكتب كلمات كي تبقى. قال ذلك لها، ذات يوم، على الشاطئ، كان قد وضع رسالة في زجاجة قديمة زرقاء، ليرميها بعيدا في البحر. كلمات لأجلها فقط، كي تقرأها وتسمع صخب صوته، والآن، تستطيع الكلمات أن تعود من المكان الذي جاءت منه، بسرعة، على هيئة ضوء ودخان، في الهواء، وتصبح غير مرئية. ربما أحدهم، من الطرف الأخر للبحر، يرى الدخان واللهب الذي يلمع كالمرآة، ويفهم.

تغذي ليلابي النار بأخشاب وبأغصان صغيرة وبالأشنيات الجافة من أجل أن يستمر اللهب. كان الهواء يفوح بكل أنواع الروائح، رائحة خفيفة ومحلاة قليلا لورق الرسائل، الرائحة القوية للفحم والخشب، الدخان الثقيل للأشنيات.

كانت ليلابي تنظر إلى الكلمات التي تغادر مسرعة، أسرع من الأفكار كالوميض. من وقت لأخر، كانت تتعرف عليها مشوهة وغريبة،ملوية من النار، وكانت ليلابي تضحك

فجأة، شعرت ليلابي بوجود أحد خلفها، فاستدارت. كان الفتى الصغير ذو النظارة ينظر إليها، منتصبا على صخرة فوقها. مازالت سنارته، في يده وحذاءه معقود حول عنقه.

سألها:"لماذا تحرقين الورق؟"

ابتسمت ليلابي له.

قالت: "لأن ذلك ممتع.....انظر.."

وضعت في النار ورقة كبيرة زرقاء رسم عليها شجرة.

قال الفتى الصغير:" إنها تحترق جيدا".

" أترى، كانت راغبة في الاحتراق" تشرح ليلابي. "كانت تنتظر هذا من وقت طويل، كانت جافة كأوراق ميتة، لهذا السبب، تحترق جيدا."

وضع الفتى الصغير ذو النظارة سنارته وذهب يحضر الأغصان الصغيرة من أجل النار. أمضيا لحظات ممتعة في إحراق كل ما يستطيعان إحراقه. اسودت يدا ليلابي من الدخان ووخزتها عيناها. تعب الأثنان وأنهكا من انشغالهما بالنار. والآن، بدت النار متعبة، أيضا. لهبها أصبح قصيرا، و انطفأت الأغصان الصغيرة والأوراق واحدة وراء واحدة.

قال الفتى الصغير وهو يمسح نظارته: ستنطفئ النار".

" لأنه لم يعد هناك رسائل. هذا ما تريده."

أخرج الفتى الصغير من جيبه ورقة مثنية أربع ثنيات.

سألت ليلابي " ما هذه؟" أخذت الورقة وفتحتها. كانت رسما لامرأة بوجه أسود. تعرفت ليلابي فيها على كنزتها الصوفية الخضراء.

" أهذا رسمي؟"

" رسمته لأجلك"، قال الفتى الصغير. " لكن بإمكاننا إحراقه."

إلا أن ليلابي ثنت الرسم ونظرت إلى انطفاء النار.

سأل الفتى الصغير:" ألا تريدين إحراقه الآن؟".

قالت ليلابي: "لا، ليس اليوم".

بعد انطفاء النار، انطفأ الدخان، وهبت الريح على الرماد.

قالت ليلابي :"سأحرقه عندما أحبه كثيرا".

ظلا لوقت طويل جالسين على الرصيف، ينظران إلى البحر دون أن يتكلما. كانت الريح تمر على البحر، مثيرة الرّذاذ الذي كان يخز وجهيهما. كان ذلك كما لو أنهما جالسين على مقدمة قارب، في عرض البحر. لم يكن يسمع شيئا آخر، سوى صخب الأمواج وعزيف الريح الممتد.

عندما بلغت الشمس كبد السماء في الظهيرة، نهض الفتى الصغير ذو النظارة والتقط سنارته وحذاءه.

قال: "أنا ذاهب".

" ألا تريد البقاء؟"

" لا أستطيع، علي أن أعود." نهضت ليلابي هي الأخرى.

سأل الفتى الصغير:"أستبقين هنا؟".

" لا، سأذهب هناك، أبعد."

صعدت على الصخور، في أخر الرأس البحري.

" هناك، يوجد منزل أخر، إلا أنه أكبر، يقال إنه مسرح." شرح الفتى الصغير لليلابي." يجب تسلق الصخور، وبعد ذلك يمكن الدخول من الأسفل."

" هل ذهبت إلى هناك؟"

نعم، غالبا. إنه جميل، إلا أنه يصعب الوصول إليه."

وضع الفتى الصغير حذاءه حول عنقه وابتعد بسرعة.

قالت ليلابي:"إلى اللقاء..".

قال الفتى الصغير:" مع السلامة..".

مشت ليلابي نحو الرأس. ركضت، قافزة من صخرة إلى أخرى. لم يعد هناك طريق. يجب تسلق الصخور ، بالتشبث بجذور الخلنج والأعشاب. كانت بعيدة، ضائعة وسط الصخور البيضاء، معلقة بين السماء والبحر. بالرغم من برودة الريح، كانت ليلابي تشعر بأشعة الشمس المحرقة، تنضح عرقا تحت ثيابها. كانت حقيبتها تزعجها، لذلك قررت إخفاءها في مكان ما، لأخذها فيما بعد. طمرتها في حفرة، في سفح شجرة صبارة كبيرة. أغلقت المخبأ بحجرين أو ثلاثة.

فوقها، الآن، كان يربض المنزل الإسمنتي الغريب الذي تكلم عنه الفتى الصغير.للوصول إليه، كان ينبغي صعود الركام. كانت الأنقاض البيضاء تلمع في ضوء الشمس. ترددت ليلابي للحظة، لأن كل شيء في هذا المكان يلتف بالغرابة والصمت. فوق البحركان معلقا بالجدار الصخري بحدرانه الأسمنتية العالية الخالية من النوافذ.

كان هناك طير يحلق فوق الأنقاض، امتلأت ليلابي فجأة بالرغبة بأن تكون في الأعلى. بدأت تتسلق الركام. كانت نتوءات الأحجار تكشط يديها وركبتيها، تنزلق خلفها كتل جرفية صغيرة. عندما وصلت إلى الأعلى، استدارت لترى البحر، ولكي لا تصاب بالدوار اضطرت إلى إغلاق عينيها. تحتها، لم يكن هناك بعيدا حيث يمتد النظر سوى البحر، الشاسع، الأزرق، البحر يملأ الفضاء إلى الأفق الكبير، الذي يبدو كسقف بلا نهاية، قبة عملاقة من معدن داكن، حيث تتحرك كل تجاعيد الأمواج. كانت السماء تشتعل فوقها، أما هي، فكانت ترى البقع والطرق المعتمة، غابات الأشنيات، آثار الزبد. كانت الريح تكتسح البحر دون توقف، تصقل سطحه.

فتحت ليلابي عينيها ونظرت إلى كل شيء، متشبثة بالصخور بأظافرها. البحر كان جميلا جدا، خيل إليها، بأنه كان يجتاز رأسها وجسدها بسرعة، بأنه كان يحمل إليها ألاف الأفكار، دفعة واحدة.

ببطء، وحذر، اقتربت ليلابي من الأنقاض. كان الأمر ما قاله الفتى الصغير ذو النظارة، مسرح بجدران كبيرة من الأسمنت المسلح. نمت النباتات بين الجدران العالية، عوسج وعرائش غطت، تماما، الأرض. على الجدران، كان هناك سقف خرساني، مثقوب في بعض الأماكن. كانت الريح تندفع من الأبواب والنوافذ، من كل جهة من البناء، مع هبات قوية تدفع حديد التسليح الخرساني للسقف إلى الحركة. كانت الصفائح المعدنية تتلاطم مصدرة موسيقى غريبة، فيما ليلابي ظلت ساكنة للإنصات إليها. كانت كصرخات خطاف البحر وكهدير الموج، موسيقى عجيبة، خيالية، دون إيقاع، تجعل المرء يصاب بالقشعريرة. عادت ليلابي إلى المسير بمحاذاة الجدار الخارجي كان يوجد طريق ضيق يعبر بين العوسج، يقود إلى سلم هدم نصفه. صعدت ليلابي درجات السلم، ووصلت إلى منصة، تحت السقف يمكن رؤية البحر من خلال ثغر. جلست ليلابي في ذاك المكان، مقابل الأفق، تحت الشمس، تتابع النظر إلى البحر. ثم أغلقت عينيها.

فجأة، اختلجت ليلابي، لأنها قد شعرت بوصول شخص ما. لم تكن هناك أي ضجة سوى حركة الصفائح الحديدية للسقف بفعل الرياح، مع ذلك شعرت بالخطر. في الطرف الأخر من الأنقاض، على الطريق الذي بعبر العوسج، وصل شخص ما. كان رجلا يرتدي سروالا من كتان، بوجه أسود من الشمس، بشعر أشعث. يمشي دون أن يصدر أي ضجة، متوقفا من وقت إلى أخر، كما لو أنه يبحث عن شيء ما. ظلت ليلابي ساكنة ملتصقة بالحائط، بقلب يخفق، راجية أن لا يراها. دون أن تفهم لماذا، كانت تعلم أن الرجل يبحث عنها، حبست أنفاسها كيلا يسمعها. إلا أنه حينما اجتاز الرجل نصف الطريق، رفع رأسه بهدوء ورأى الفتاة. كانت عيناه الخضراوان تلمعان بغرابة في وجهه الداكن. ودون أن يسرع، بدأ يمشي نحو السلم. إلا أن الوقت أصبح متأخرا للنزول، بقفزة واحدة، خرجت ليلابي من الثغر وتسلقت السقف. كانت الريح تهب بقوة لدرجة أنها كادت أن تقع. أسرعت بقدر ما تستطيع، راكضة نحو الطرف الأخر للسقف، تسمع وقع قدميه بين أنقاض الصالة الكبرى. قلبها يخفق بقوة في صدرها. حين وصلت إلى نهاية السقف، توقفت، أمامها، كانت تفصلها حفرة كبيرة عن جدار الجرف. أنصتت حولها. لم يكن هناك شيء سوى صخب الريح في الصفائح المعدنية للسقف، إلا أنها كانت تعرف أن الرجل المجهول لم يكن بعيدا، كان يركض في الطريق وسط العوسج ليدور حول الأنقاض ويجيء من الخلف. لذلك قفزت ليلابي. ساقطة على انحدار الجرف، التوى كاحلها الأيسر، وشعرت بالألم، صارخة فقط: " أي...".

انبثق الرجل أمامها، دون أن تفهم من أين. كانت يداه مخدوشتين بالعوسج، يلهث قليلا. ظل ساكنا أمامها، عيناه الخضراوان جامدتان كقطع صغيرة من الزجاج. أهو الذي كتب الرسائل بالطبشور، طوال الطريق على الصخور؟ أهو الذي دخل البيت اليوناني الجميل، ووسخ الجدران بالعبارات الفاحشة؟ كان قريبا جدا منها لدرجة أنها شمت رائحته، رائحة عرق لا طعم لها، واخزة، أشبعت ثيابه وشعره. فجأة، خطا خطوة إلى الأمام، فم مفتوح، عينان ضيقتان قليلا. رغم الألم في كاحلها، قفزت ليلابي وبدأت النزول من الجرف. حين وصلت إلى أسفل الجرف، توقفت واستدارت. أمام الجدران البيضاء للأنقاض، كان الرجل يقف بذراعين متباعدتين، كمن يحاول أن يحافظ على توازنه.

كانت الشمس قوية فوق البحر، وبفضل الريح الباردة، شعرت ليلابي بأنها كانت تسترد قوتها. شعرت أيضا بالاشمئزاز وبالغضب اللذين حلا شيئا فشيئا محل الخوف. وفجأة، فهمت بأنه لاشيء يمكن أن يصيبها. كانت الريح، البحر، الشمس. تذكرت كلام أبيها الذي قال لها يوما بخصوص الريح، البحر، الشمس، عبارة طويلة تتحدث عن الحرية والفضاء، شيئا من هذا القبيل. وقفت ليلابي على صخرة تشبه مقدمة سفينة، فوق البحر، وأرجعت رأسها إلى الخلف، كي تشعر بشكل أفضل بحرارة الضوء على جبهتها وجفنيها. كان والدها هو الذي علمها فعل ذلك، كي تسترد قواها، كان يسمي هذه الحركة: " شرب الشمس".

نظرت ليلابي إلى البحرالذي كان يتهادى أمامها، ملاطما الصخور بهيجانه وفقاعاته. تركت جسدها يسقط في الماء، الرأس أولا، ثم غطست في الموجة. لفها الماء البارد ضاغطا على طبلة الأذن وفتحتي أنفها، ورأت في عينها بريق فاتن. عندما صعدت إلى سطح الماء، نفضت شعرها وأطلقت صرخة. بعيدا خلفها، كسفينة ضخمة رمادية، كانت الأرض تهتز مثقلة بالحجارة والنباتات. في القمة، كان المنزل الأبيض المتهدم يشبه ممرا مفتوحا نحو السماء.

للحظة، تركت ليلابي نفسها لحركة الموج البطيئة، كانت ملابسها ملتصقة بجسدها كالأشنيات. ثم بدأت تسبح سباحة الكرول لمسافة طويلة، نحو العمق إلى أن ابتعد الرأس وإلى أن أصبح الخط الشاحب لبنايات المدينة بالكاد مرئيا في الجو السديمي.

 

 

3

 

كل ما يجري لا يمكن أن يدوم طويلا. كانت ليلابي تدرك ذلك. فكل هؤلاء الناس، في المدرسة، في الشارع. كانوا يرون ويتحدثون كثيرا. هناك فتيات، أوقفن ليلابي كي يقلن لها بأنها تبالغ قليلا، وبأن مديرة المدرسة وكل الناس يعلمون جيدا بأنها لم تكن مريضة. بالإضافة إلى الرسائل التي كانت تطلب تفسيرا للأمر. فتحتها ليلابي مجيبة باسم أمها، حتى إنها، ذات يوم، اتصلت هاتفيا بمكتب مراقب المدرسة، مقلدة صوت أمها كي تشرح بأن ابنتها مريضة، مريضة جدا، وبأنها لا تستطيع العودة إلى المدرسة.

كانت ليلابي تدرك أن كل هذا لا يمكن أن يدوم. كتب السيد فيليبي لها رسالة ليست بالطويلة جدا، رسالة غريبة كي يطلب إليها العودة. وضعت ليلابي الرسالة في جيب سترتها، كانت تحملها دائما معها. أرادت أن تجيبه كي تشرح له، إلا أنها كانت خائفة من احتمال قراءة المديرة للرسالة، وبالتالي ستعلم بأنها لم تكن مريضة، وبأنها كانت تتنزه.

في الصباح، حين خرجت من الشقة، كان الجو رائعا. وأمها لا تزال نائمة، بسبب الحبوب التي تتناولها كل مساء منذ الحادث. حين نزلت ليلابي إلى الشارع، خطف الضوء بصرها.

السماء بيضاء، والبحر يلمع. كالعادة، سارت ليلابي في طريق المهربين. كانت الصخور البيضاء تبدو كصخور جليدية عائمة على الماء. سارت ليلابي للحظة بمحاذاة الشاطئ، منحنية قليلا إلى الأمام في وجه الريح. دون أن تجرؤ في الوصول إلى المنصة الأسمنتية بعد الحصن. كانت تتمنى رؤية المنزل اليوناني ذي الأعمدة الستة، لتجلس وتترك خيالها يحلق في أعماق البحر. إلا أنها خافت من لقاء الرجل ذا الشعر الأشعث الذي يكتب على الجدران والصخور. لذلك، جلست على صخرة على طرف الطريق، تحاول تخيل المنزل. كان صغيرا، جاثما قبالة الجرف، أبوابه مغلقة. ربما من الأن وصاعدا ، لن يدخله أحد. فوق الأعمدة، على تيجانها المثلثية، كان أسمه مضاء بأشعة الشمس:

CARISMA

كانت هذه الكلمة، الكلمة الأكثر جمالا في العالم.

مستندة إلى الصخرة، نظرت ليلابي إلى البحر، مدة طويلة، مرة أخرى، كأنها يجب أن لا تراه. كانت الأمواج المتراصة تتهادى بعيدا حتى الأفق. والضوء يومض فوق ذراها، كزجاج مهروس. والريح المملحة تهب. كان البحر يهدر بين فجوات الصخور، وأغصان الشجر الصغيرة تصدر فحيحها. تترك ليلابي نفسها مرة أخرى للنشوة الغريبة للبحر والسماء الخاوية. في نحو الظهيرة، تدير ظهرها للبحر، وتتبع الطريق الذي يؤدي إلى مركز المدينة.

في الشوارع، لم تعد الريح نفسها. كانت تدور حول نفسها، تعبر بهبات، تصفق أبواب النوافذ، مثيرة غشاوة الغبار. كان الناس لا يحبون الريح، كانوا يجتازون الشوارع بعجلة، ملتجئين إلى زوايا الجدران.

الريح والجفاف شحنا كل شيء بالكهرباء. يتقافز الناس بعصبية، يتشاتمون، يتصادمون، وعلى قارعة الطريق، تتصادم،أحيانا، سيارتان فيفيض المكان بصوت اصطدام الحديد والزمامير.

مشت ليلابي في الشوارع بخطوات كبيرة، بعيون نصف مغلقة، لتتجنب الغبار. حين وصلت إلى مركز المدينة كان رأسها يدور كما لو أن الدوار قد أصابها. الجموع تذهب وتجيء، تدور كأوراق ميتة. جماعات الرجال والنساء تتجمع ثم تتفرق، تتشكل من جديد، كبرادة الحديد في حقل مغناطسي. إلى أين يذهبون؟ ماذا يريدون؟ منذ زمن طويل، لم تر ليلابي هذا القدر من الوجوه، من العيون، من الأيدي، التي لم تدرك فهمها. الحركة البطيئة للجموع، على الرصيف، تأخذها، تدفعها إلى الأمام دون أن تدرك إلى أين تذهب. يعبر الناس بقربها، تشتم أنفاسهم، تشعر باحتكاك أيديهم.انحنى رجل إلى وجهها وتمتم بشيء ما، كان كمن يتكلم لغة مجهولة.

دون أن تنتبه، دخلت ليلابي إلى مجمع تجاري، مليء بالأضواء والضجيج. شعرت كما لو أن الريح تهب أيضا في الداخل، في الممرات، على السلالم، تلف اليافطات. كانت مقابض الباب تفرغ شحنات كهربائية، قضبان النيون تتلألأ كبريق شاحب.

بحثت ليلابي عن مخرج المجمع التجاري. حين عبرت أمام الباب، صدمت شيئا ما وتمتمت:

" عفوا سيدتي"

إلا ان ذلك لم يكن سوى مانيكان بلاستيكي، ترتدي قبعة مستديرة من نسيج قطني سميك أخضر. الذراعان متباعدتان تهتز قليلا، وجه مدبب، لون شمعي شبيه بلون مديرة المدرسة. بسبب الاصطدام انزلق الشعر المستعار الأسود للمانيكان على عينها ذات الأهداب الشبيهة بقوائم الحشرات، وبدأت ليلابي تضحك وترتعش في آن.

شعرت بتعب شديد، ربما كان ذلك بسبب أنها لم تأكل منذ العشية، فدخلت إلى مقهى. جلست في عمق الصالة، حيث يوجد قليل من الظل. كان النادل واقفا أمامها.

" أريد عجة"، قالت ليلابي.

نظر إليها النادل للحظة، كما لو أنه لم يفهم ثم صرخ باتجاه طاولة الخدمة:

" عجة للآنسة..."

ثم تابع النظر إليها.

أخذت ليلابي ورقة من جيب سترتها وحاولت الكتابة. أرادت كتابة رسالة طويلة، دون أن تعرف لمن ترسلها. أرادت في الوقت نفسه ،الكتابة لأبيها، وللأخت لورانس، وللسيد فيليبي، وللفتى ذي النظارة السوداء لتشكره على رسمه. إلا انها لم تستطع. لذلك، جعلكت الورقة وأخذت أخرى. وبدأت تكتب:

" سيدتي المديرة،

أرجو أن تعذري ابنتي لعدم استطاعتها العودة إلى المدرسة، حاليا، لأن حالتها الصحية تتطلب...."

توقفت. تتطلب ماذا؟ لم تستطع تخيل أي شيء، لتتابع رسالتها.

" عجة الآنسة"، صاح صوت النادل. وضع الصحن على الطاولة ناظرا إلى ليلابي بغرابة.

جعلكت ليلابي الورقة الثانية وبدأت تأكل العجة، دون أن ترفع رأسها. جعلها الطعام الساخن تشعر بالراحة، وبعد قليل ستنهض وتتابع المسير.

حين وصلت أمام بوابة المدرسة، ترددت للحظات.

دخلت. أحاطها لغط الأطفال دفعة واحدة. مباشرة، عرفت كل شجرة كستناء، كل شجرة دلب. كانت الزوابع تحرك أغصانها النحيفة، وكانت أوراقها تدور في الباحة. عرفت أيضا كل قرميدة، كل مقعد بلاستيكي أزرق، كل النوافذ بزجاجها الخشن. ولكي تتجنب الأطفال الذين كانوا يركضون، جلست على مقعد في عمق الباحة. انتظرت. دون أن ينتبه إليها أحد.

خف الصخب. ودخل التلاميذ إلى الصفوف، وأغلقت الأبواب واحدا وراء الأخر. لم يبق إلا الأشجار التي تهزها الريح، والغبار وأوراق الأشجار الميتة التي كانت ترقص على هيئة دائرة وسط الباحة.

شعرت ليلابي بالبرد. نهضت وبدأت البحث عن السيد فيليبي. فتحت أبواب المبنى المسبق الصنع، حيث توجد المخابر. في كل مرة، كانت تدهش بعبارة تبقى معلقة للحظة في الهواء، ثم تذهب حين تغلق الباب.

اجتازت ليلابي من جديد الباحة وقرعت الباب الزجاجي للبواب.

قالت: "أريد رؤية السيد فيليبي".

نظر إليها الرجل مندهشا.

قال:" لم يصل بعد"، وفكر قليلا. " أظن أن مديرة المدرسة تريدك. تعالي معي."

تبعته ليلابي طائعة. وقف أمام باب مطلي بالورنيش وقرع. ثم فتح الباب مشيرا لليلابي بالدخول.

من خلف مكتبها، نظرت المديرة إليها بعينين ثاقبتين.

" أدخلي واجلسي. إني أنصت إليك."

جلست ليلابي على الكرسي ونظرت إلى المكتب المطلي بالشمع. كان الصمت ينذر بأنها تريد قول شيء ما.

قالت: "أريد رؤية السيد فيليبي.... لقد كتب لي رسالة."

قاطعتها المديرة. صوتها كان باردا وقاسيا كنظرتها.

" أعلم بأنه كتب إليك. فعلت أنا ذلك أيضا. ليس ذلك مهما، المهم في الموضوع هو أنت.أين كنت؟ بالتأكيد هناك أشياء... مهمة ستروينها. إني أنصت إليك يا آنسة."

تجنبت ليلابي نظرتها.

" أمي..."، بدأت.

صرخت المديرة:

" والدتك ستعلم بكل هذا فيما بعد، وبالطبع، والدك أيضا."

ثم أظهرت ورقة، عرفتها ليلابي بسرعة.

" وهذه الرسالة المزورة....."

لم تنكر ليلابي، بل أنها لم تندهش أبدا.

كررت المديرة: "إني أنصت إليك"، . كان يبدو أن لامبالاة ليلابي قد أخرجتها شيئا فشيئا عن طورها. ربما كان ذلك خطأ الريح التي كهربت كل شيء.

" أين كنت خلال كل هذا الوقت؟"

تكلمت ليلابي. تكلمت ببطء، باحثة عن كلماتها، لأنها، الآن، فقدت عادة الكلام، فيما كانت تتكلم، كانت ترى أمامها، في مكان المديرة، المنزل ذا الأعمدة البيضاء، الصخور، الاسم اليوناني الجميل الذي كان يلمع تحت الشمس. كانت تحاول رواية كل هذا للمديرة، البحر الأزرق بانعكاساته الشبيهة بالجواهر، الصخب العميق للأمواج، الأفق، بخطه الأسود، الريح المملحة، حيث يحلق خطاف البحر. كانت المديرة تنصت، وجهها امتلأ للحظة بتعابير الانذهال الشديد. هكذا، كانت تبدو كالمانيكان وبشهرها المستعار، جهدت ليلابي كثيرا كيلا تبتسم. حين توقفت عن الكلام، سادت عدة لحظات من الصمت. ثم تغير وجه المديرة، كما لو أنها كانت تبحث عن صوتها. دهشت ليلابي لرنة صوتها. لم يعد نفس الصوت، أصبح خفيضا وأكثر نعومة.

قالت المديرة: "أنصتي يا طفلتي"،.

انحنت على مكتبها، ناظرة إلى ليلابي. كانت يدها تحمل قلما أسود محاطا بخط مذهب.

" طفلتي، أنا مستعدة لنسيان كل هذا. تستطعين العودة إلى المدرسة كالسابق قبل. لكن يجب أن تقولي لي....."

ترددت.

" أنت تفهمين أني أريد مصلحتك. لذلك يجب أن تقولي كل الحقيقة."

لم ترد ليلابي. لم تفهم ما الذي تريد المديرة قوله.

" تستطيعين التكلم دون خوف، كل شيء سيبقى بيننا."

بما أن ليلابي لم ترد، قالت المديرة بسرعة، بصوت منخفض:

" لديك صديق، أليس كذلك؟"

أرادت ليلابي أن تحتج، إلا أن المديرة منعتها من الكلام.

" الانكار غير مفيد، العديد من رفاقك رأوك مع فتى."

قالت ليلابي: هذا غير صحيح.. " لم تصرخ، إلا أن المديرة تصرفت كما لو أنها صرخت، وقالت بصوت عال:

" أريد معرفة أسمه..."

قالت ليلابي:" ليس لي صديق" . فهمت سبب تغير وجه المديرة، لأنها كانت تكذب. شعرت بوجهها الذي أصبح كالحجر، باردا ومصقولا، نظرت مباشرة إلى عيني المديرة، ولأن المديرة كانت تكذب، لم تعد ليلابي تخافها.

اضطربت المديرة، وأدارت نظرتها. قالت في البداية، بصوت هادئ، حنون.

" يجب أن تقولي الحقيقة لي، من أجلك يا صغيرتي."

بعد ذلك، أصبح صوتها قاسيا وخبيثا.

" أريد معرفة اسم هذا الفتى..."

شعرت ليلابي بالغضب يكبر في داخلها. كان باردا وثقيلا جدا كالحجارة، تموضع في رئتيها، في حلقها، بدأ قلبها يخفق بسرعة، بالطريقة نفسها، حين رأت العبارات الفاحشة على جدران المنزل اليوناني.

" لا أعرف أي فتى، هذا غير صحيح، غير صحيح.." صرخت، وأرادت النهوض كي تغادر. إلا أن المديرة أشارت لها بالبقاء.

" ابقي، ابقي، لا تغادري.." صوتها كان من جديد أكثر انخفاضا، فيه قليل من الارتعاش. " أقول هذا من أجل مصلحتك، فقط من أجل مساعدتك، يجب أن تفهمي ذلك..."

تركت القلم الأسود الصغير ذا الطرف المذهب وشبكت يديها النحيفتين بعصبية كل منهما بالأخرى. عادت ليلابي للجلوس ولم تعد تتحرك. كانت بالكاد تتنفس، ووجهها أصبح أبيض، كقناع من الحجارة. شعرت بالضعف، ربما لأنها لم تأكل وتنم إلا قليلا، في هذه الأيام على شاطئ البحر.

قالت المديرة: "واجبي أن أحميك ضد أخطار الحياة". "أنت لا تستطيعين أن تدركي ذلك، لازلت صغيرة. السيد فيليبي كلمني عنك بعبارات ثناء، أنت طالبة جيدة ولاأريد ان يهدم كل شيء بحادث عابر...."

كانت ليلابي تنصت إلى صوتها، كما لو أنه يجيء من بعيد، من فوق جدار مشوه من حركة الريح. أرادت التكلم، لكنها لم تستطع أن تحرك شفتيها.

" أنت اجتزت فترة عصيبة منذ ما حدث لأمك، إقامتها في المشفى. أنت ترين أني أعرف كل هذا، مما يساعدني على فهمك، إلا أنه عليك أن تساعديني أيضا، عليك أن تبذلي الجهد...."

" أريد رؤية.... السيد فيليبي..."، قالت ليلابي في النهاية.

قالت المديرة: "سترينه فيما بعد، سترينه". إلا أنه عليك أن تقولي الحقيقة، أين كنت؟"

" قلت لك، كنت أنظر إلى البحر، اختبئ بين الصخور وأنظر إلى البحر"

" مع من؟"

" قلت لك إني كنت وحيدة، وحيدة.."

" غير صحيح..."

صرخت المديرة، ثم تابعت مباشرة" إن لم تقولي مع من، سأكون مجبرة للكتابة لوالديك. لأبيك..."

بدأ قلب ليلابي يخفق بشدة.

"إن فعلت ذلك، فلن أعود أبدا إلى هنا"

شعرت بقوة كلماتها، فكررت ببطء دون أن تدير عينيها:

" إن فعلت ذلك، فلن أعود أبدا إلى هنا، ولا إلى أي مدرسة أخرى."

صمتت المديرة للحظة طويلة، وامتلأت الصالة الكبرى بالصمت، كالريح الباردة. ثم نهضت المديرة. نظرت إلى الفتاة بانتباه.

في النهاية قالت: يجب ألا توضعي في هذه الحال"، " أنت شاحبة، تعبة. سنتكلم في الأمر مرة أخرى."

نظرت إلى ساعتها.

حصة السيد فيليبي ستبدأ خلال بضع دقائق. تستطيعين الذهاب."

نهضت ليلابي ببطء. ومشت نحو الباب الكبير. استدارت قبل الخروج، وقالت:

" شكرا يا سيدتي"

كانت باحة المدرسة ممتلئة من جديد بالتلاميذ. كانت الريح تهز أغصان أشجار الدلب والكستناء، وأصوات الأطفال تصدر ضوضاء تثملها. اجتازت ليلابي الباحة ببطء، متجنبة جماعات التلاميذ والأطفال المتراكضين.أشارت لها بضع فتيات، من بعيد، دون أن يجرؤن على الاقتراب، أجابتهن ليلابي بابتسامة خفيفة. حين وصلت أمام البناء المسبق الصنع، رأت هيكل السيد فيليبي، بالقرب من العمود B كعادته كان مرتديا بزته الزرقاء الرمادية، يدخن سيجارة، ناظرا إلى أمامه. توقفت ليلابي. لمحها الأستاذ، وجاء إلى لقاءها مشيرا لها بيده إشارات مفرحة.

" وبعد؟ وبعد؟"، قال. هذا كل ما استطاع قوله.

" أريد أن أسألك..." بدأت ليلابي؟

" عن ماذا؟"

" عن البحر، عن الضوء، لدي الكثير من الأسئلة."

إلا أن ليلابي أدركت فجأة أنها نسيت أسئلتها. نظر السيد فيليبي مبتسما.

" هل سافرت؟"

قالت ليلابي: " نعم..".

" أكان سفرا ممتعا"

" ....نعم.. كان ذلك ممتعا."

دق الجرس فوق الباحة، في الأروقة.

" قال السيد فيليبي: "أنا سعيد جدا...". أطفأ سيجارته بكعبه.

قال:" ستروين لي كل شيء فيما بعد". كان بريق أخاذ يلمع في عينيه تحت نظارته.

" لن تسافري بعد الآن، أليس كذلك؟"

قالت ليلابي: "لا".

قال السيد فيليبي: " جيد، يجب الذهاب، الآن، إلى الدرس". وكرر أيضا: " أنا سعيد جدا." استدار نحو الفتاة قبل أن يدخل إلى البناء المسبق الصنع.

" ستسألينني كل ما تريدينه، بعد الدرس. إني أحب البحر كثيرا، ..مثلك."

 

Retour عودة