الطواف
قررت الفتاتان الالتقاء هنا...
في المكان الذي يتوسع فيه شارع الحرية، مشكلا ساحة صغيرة....
قررتا اللقاء في الواحدة، لأن دروس الاختزال تبدأ في الساعة الثانية، مما يتيح لهما الوقت الكافي. حتى وإن وصلتا متأخرتين، ولم يسمح لهما بالدخول، فبأي شيء يمكن أن يؤثر عليهما ذلك؟ هذا ما قالته تيتي، الفتاة الأكبر عمرا، ذات الشعر الأحمر. هزت مارتين كتفيها، كعادتها حين تكون موافقة وليست لديها الرغبة في الإفصاح عن ذلك. مارتين أصغر من تيتي بسنتين ـ أي أنها ستبلغ السابعة عشرة بعد شهرـ بالرغم من مظهرها الذي يوحي بأن لها العمر ذاته. إلا أنها، كما يقال، ينقصها شيء من الشخصية، وتحاول إخفاء خجلها تحت مظهر عابس، كأن تهز، مثلا، الكتفين، من أجل أن تقول نعم أو لا.
على كل حال، لم تكن مارتين صاحبة الفكرة. ربما تيتي، لم تكن صاحبتها أيضا، إلا أنها كانت الأولى التي تحدثت عنها. لم تفاجئ مارتين، ولم تصرخ بصوت عال. فقط، رفعت الكتفين، بهذا النحو توافقت الفتاتان. رغم ذلك، جرت مناقشة صغيرة من أجل تحديد المكان. مارتين أرادت أن يكون ذلك خارج المدينة، عند الطواحين مثلا، حيث لا يوجد الكثير من الناس، إلا أن تيتي رأت بأن يكون ذلك في وسط المدينة حيث يمر الناس، ألحت تيتي كثيرا، مما دعا مارتين في النهاية، إلى أن تهز كتفيها. في حقيقة الأمر، سواء أكان ذلك في وسط المدينة أو عند الطواحين، فإن المسألة كانت تبدو لمارتين مسألة حظ، لا غير. هذا ما كانت تفكر به، إلا أنها لم تجد قول ذلك لتيتي مناسبا.
لم تفكر مارتين في الموعد، أثناء طعام الغداء، مع أمها. وحين تذكرته، أدهشها بأنها شعرت، أن الأمر سيان عندها. لم يكن الأمر بالتأكيد مماثلا لتيتي، فهي قد قلّبت الحكاية على كل وجوهها، أياما وأياما، بالتأكيد، تكلمت عنها في الوقت الذي كانت فيه تجلس بجانب صديقها على المقعد، تأكل سندويشا. كان هو الذي تكلم، للمرة الأولى، عن إعارة دراجته النارية لمارتين، لعدم ملكيتها واحدة منها، إلا أنه لم يكن بالإمكان معرفة رأيه الصريح في كل هذا. عيناه صغيرتان، ضيقتان، لا يمكن قراءة شيء فيهما، حتى ولو كان غاضبا أو ضجرا.
مع ذلك، حين وصلت إلى شارع الحرية، بالقرب من الساحة، شعرت مارتين فجأة بأن الرعب قد ملأ قلبها. شيء غريب، أن يكون القلب خائفا، ينبض:" بوم..بوم..بوم.."، بقوة داخل الجسد، بعد ذلك تصبح الساقان رخوتين، كما لو أنها ستسقط. لماذا هي خائفة؟ لا تعرف جيدا، رأسها باردة، وأفكارها لا مبالية، مملة قليلا، كما لو أن شخصا آخر داخل جسدها قد جن. على أية حال، كانت تشد شفتيها، تتنفس بهدوء، لا يرى الآخرون ما في داخلها. تيتي وصديقها هنا، على الدراجة النارية. لم تكن مارتين تحب صديق تيتي، ولكي لا يقبلها، كانت لا تقترب منه. أما تيتي، فقد كانت شيئا مختلفا. هي ومارتين، صديقتان حقيقيتان، لاسيما منذ سنة، كل شيء تغير في مارتين منذ أن أصبح لها صديقة. الآن، صارت أقل خوفا من الفتيان، وأصبح لديها شعور بأن لاشيء يمكن أن يصيبها مادام أن هناك صديقة. لم تكن تيتي جميلة، إلا أنها تعرف الضحك، لها عينان جميلتان، رماديتان-خضراوان، كان في شعرها الأحمر غرابة تناسبها. كانت تحمي مارتين دائما من الفتيان، فجمال مارتين قد جلب لها المشاكل مع الفتيان، كانت تيتي تساعدها في مواجهة هذا الأمر، أحيانا بالركل واللكم.
ربما، كان صديق تيتي هو صاحب الفكرة الأول. إلا أن التأكد من ذلك فيه صعوبة، منذ أمد طويل، كان الجميع،أكثر أو أقل، لديه رغبة في المحاولة، إلا أن الفتيان دائما يتكلمون كثيرا، دون أن يفعلوا شيئا كبيرا. لذلك قالت تيتي بأننا سنبرهن لهم بأن الشجاعة لا تخوننا، لم يعد حينها لمارتين أي داع للخوف. لأجل هذا، كانت مارتين تشعرقلبها يخفق بقوة في قفصها الصدري، لأن ذلك كان امتحانا، اختبارا. لم تكن بعد قد فكرت في الأمر، لكن، لحظة رؤيتها لتيتي والفتى جالسين على الدراجة النارية، في زاوية الشارع، تحت الشمس، يدخنان، أدركت بأن العالم ينتظر شيئا ما، بأنه يجب أن يحدث شيء ما. بالرغم من ذلك، كان شارع الحرية هادئا، لا يوجد فيه أناس كثر. والحمام يمشي تحت الشمس على حافة الرصيف وفي قناة ماء المطر، يحرك رؤوسه بشكل ألي. لكن.... كما لو أن هناك خواء كثيفا يأتي من كل الجهات؛ خواء يجلب الغم، يصرصر داخل الآذان، يعلق الوعيد في أعلى الأبنية ذات الطوابق السبع، على الشرفات، وراء كل نافذة، أو داخل كل سيارة متوقفة.
ظلت مارتين بلا حراك، تشعر ببرودة الخواء في داخلها، في قلبها، راحتاها مبللتان بقليل من العرق. فيما تيتي والفتى ينظران إليها بعيون متغضنة، من شدة ضوء الشمس. يكلمانها دون أن تنصت إليهما. لابد أنها كانت شاحبة، عيناها ثابتتان، وشفتاها ترتجفان. فجأة، لم يعد هناك شيء، الأن هي التي تتكلم، صوت أجش، دون أن تدري جيدا ما تقول.
" هيا، أنذهب؟ أنذهب الآن؟"
نزل الفتى عن دراجته. قبل تيتي في فمها، ثم اقترب من مارتين التي أبعدته بعنف.
" هيا، أتركها"
أدارت تيتي دراجتها بفظاظة، ووقفت إلى جانب مارتين. ثم انطلقتا مسرعتين، في ذات اللحظة، سارتا للحظة على الرصيف، ثم نزلتا معا إلى قارعة الطريق، وبقيتا جنبا إلى جنب في الجانب المخصص للباصات.
الآن، وهي تقود دراجتها، لم يعد للخوف مكان داخل جسدها. ربما اهتزازات الدراجة، رائحة وحرارة الغاز ملأت تجاويفها. تحب مارتين قيادة الدراجات النارية، لاسيما حين تكون الشمس ساطعة، وحين لا يكون الهواء باردا، كمثل هذا اليوم. تحب الاندساس بين السيارات، الرأس مائل إلى الجنب قليلا كيلا تستنشق الريح... كانت تيتي محظوظة، فقد أعارها أخوها دراجته، لم تكن تماما إعارة، إنه ينتظر أن تدفع له تيتي قليلا من النقود. لم يكن شقيق تيتي يشبه الفتيان الآخرين. أنه شخص يعرف ماذا يريد، لا يضيع الوقت في رواية الأكاذيب، كالآخرين، فقط من أجل أن يظهروا مزاياهم. لا تفكر مارتين حقا فيه، لكن فقط، بضع ثوان، كما لو أنها كانت معه ، على دراجته الكبيرة "غزيguzzi"، وهما ينقضان بسرعة على الطريق الخاوي. حين تكون يداها ممسكة بجسد فتى، تشعر بقوة الريح على وجهها، وبدوار المنعطفات حين تتأرجح الأرض، كطائرة.
سارت الفتاتان بمحاذاة الرصيف، نحو الغرب. الشمس مشتعلة في أوجها، والهواء الندي لم يكن يستطيع تبديد النعاس الذي يثقل إسفلت الشارع واسمنت الأرصفة. المحلات مغلقة، والستائر الحديدية مسدلة، مما يزيد انطباع الخدر. بالرغم من ضجة الدراجات ، كان صخب أجهزة التلفزيون التي تتحدث وحدها في الطوابق الأولى للأبنية يصل، أحيانا، إلى مارتين أثناء مرورها. كان هناك صوت رجل، وموسيقى ترن بغرابة في نعاس الشارع، كما لو أنها كانت ترن في مغارة.
تسير تيتي، الآن، في المقدمة، منتصبة على مقعد دراجتها. شعرها الأحمر يرفرف مع الريح، وسترة الطيار التي ترتديها، تنتفخ على ظهرها . مارتين تسير في الخلف، في ذات المسار، حين تمران أمام واجهات المحلات، كانت تلمح بطرف عينها، خياليهما اللذين ينزلقان ، كأخيلة الفرسان في أفلام الكابوي.
فجأة، عاد الخوف، من جديد، إلى داخل مارتين، وأصبح حلقها جافا. أدركت أن الشارع لم يكن حقا خاليا، وأن كل شيء كان كما لو أنه قد هيئ له من قبل. شعرت بأنهما تقتربان من الذي سيحدث دون أن تستطيعا العودة، يتصاعد القلق بقوة بحيث أن كل شيء يدور أمام عيني مارتين، كما لو أنها ستلاقي شرا ما.
أرادت أن تتوقف، أن تتمدد، في أي مكان، على الأرض، في زاوية جدار، بركبتين مثنيتين على بطنها، كي تسندا ضربات قلبها، التي تنشر الاهتزازات في جسدها. تباطأت دراجتها، تعرجت قليلا على قارعة الطريق. أمامها في البعيد، كانت تيتي تتابع سيرها دون أن تلتفت إلى الوراء، منتصبة على مقعد دراجتها، وضوء الشمس يلمع على شعرها الأحمر.
المرعب في الأمر، أن الناس ينتظرون. مارتين لا تعلم أين هم، ولا من هم، إلا أنها تعلم بأنهم هنا، في كل مكان، بمحاذاة الشارع، وعيونهم عديمة الشفقة تتبع موكب الدراجتين بمحاذاة الرصيف. ماذا ينتظرون إذن؟ ماذا يريدون؟ أيكونون على أسطحة الأبنية البيضاء، على الشرفات، أو مختبئين خلف ستائر النوافذ؟ أيكونون، بعيدا، في داخل سياراتهم، يراقبون بمناظيرهم؟ فيما مارتين كانت تفكر في ذلك، لعدة ثوان، كانت آلتها تتباطأ متعرجة على قارعة الطريق. إلا أنه بعد لحظة، ستلتفت تيتي خلفها، وتعود على عقبيها، وتقول:
ـ" ما الأمر...؟ ما الأمر...؟ ماذا حدث لك..؟ لماذا تقفين..؟"
أغلقت عينيها، متلذذة للحظات بالعتمة الحمراء، هاربة من هذا اليوم القاسي. حين نظرت من جديد إلى الشارع، وجدته أكثر خلوا وأكثر بياضا، بنهره الإسفلتي الأسود الكبير، الذي يذوب تحت أشعة الشمس. شدت على شفتيها، كما فعلت توا، كي لا يهرب خوفها. أما الآخرون، هؤلاء الذين ينظرون، المترصدون خلف أبواب شبابيكهم، خلف سياراتهم، تكرههم بشدة هذا الشعور جعل شفتيها ترتجفان وجعل قلبها يفقد صوابه. كل هذه المشاعر تروح وتجيء سريعا، بما أشعرها بأن هناك نشوة ما تسيطر عليها، كما لو أنها شربت ودخنت كثيرا. كانت تشاهد، أيضا بطرف عينها، وجوه هؤلاء الذين ينتظرون، الذين يراقبون، القذرون المترصدون خلف ستائرهم، خلف سياراتهم. رجال بوجوه غليظة، بعيون غائرة، رجال متورمون، يبتسمون بضبابية، وفي نظرتهم يلمع بريق الرغبة، بريق الخبث. نساء، نساء بتقاطيع خشنة، ينظرن إليها برغبة واحتقار، مع خشية أيضا، كذلك وجوه فتيات دروس الاختزال، وجوه الفتيان التي تلتفت، التي تقترب، التي تكشف عن تصنعها. إنهم هنا، تشعر مارتين بوجودهم خلف زجاج المقاهي، في زاوايا الشارع، الذي جعلته الشمس مهجورا.
عندما انطلقت من جديد، رأت تيتي متوقفة قبل التقاطع التالي، في مكان موقف الباص. مستديرة إلى الخلف على مقعد دراجتها، شعرها الأحمر منسدل على وجهها. كانت شاحبة، كانت أيضاَ مملوءة بالخوف، مما جعلها تشعر بعقدة في حلقها. بالتأكيد، الشمس هي مصدر الخوف، كذلك السماء العارية الخالية من الغيوم، فوق الطبقة السابعة للأبنية الجديدة.
أوقفت مارتين دراجتها إلى جانب تيتي! وبقيتا، كلتاهما، ساكنتين، اليد على مقبض الوقود، دون أن تنبس إحداهما بكلمة. لم يتحدثا معا، لم تحدق أحداهما بالآخرى، إلا أنهما كانتا تعرفان أن الطواف سيبدأ الآن، يخفق قلباهما بشدة، هذه المرة لم يكن القلق هو الدافع، وإنما نفاذ الصبر.
كان شارع الحرية بهذه الشمس المتوهجة التي تسحق الظلال خاويا، الأرصفة خالية، الأبنية ذات النواقذ الشبيهة بالعيون المطفأة، فيما كانت السيارات تنزلق بصمت. كيف يمكن أن يكون كل شيء هادئا جدا، بعيدا جدا...؟ فكرت مارتين بمحركات الدراجات التي تنطلق بصوت الرعد، ورأت لحظة سينكشف فيها الشارع، مرتميا تحت العجلات التي تفترسه، فيما ستنفجر النوافذ إلى ألاف الشظايا التي تفرش الشارع بقطع الزجاج الصغيرة.
كل ذلك كان بسببها، فقط بسببها: السيدة ذات الطقم الأزرق التي تنتظر الباص، دون أن تنظر إلى الفتاتين، كانت تبدو كما لو أنها تنام. وجهها أحمر من أثر الشمس التي سارت تحتها، تحت سترة طقمها، يلتصق قميصها بجلدها، عيناها تغوصان في محجريها، كانت لا ترى شيئا، بالكاد، تمد نظرها خلسة، إلى طرف الشارع، من الجهة التي سيأتي منها الباص. في طرف ذراعها اليمنى، تتهادى حقيبة يدها، الجلدية السوداء، ذات القفل المعدني المذهب اللامع. حذاؤها أسود اللون أيضا، مقوس تحت ثقل جسدها، ذو داخل مهترئ.
نظرت مارتين إلى السيدة ذات الرداء الأزرق بإصرار يصيب رأسها بالدوار. إلا أن عينيها الصغيرتين كانتا مختبئتين بظل تقوس حاجبيها، ومارتين لم تكن تستطيع رؤية نظرتها. لماذا كانت تريد التقاط نظرتها؟ لا تعلم مارتين ما في داخلها، ما الذي يجعلها مضطربة، ما الذي يقلقها ويثيرها في الوقت نفسه. أيكون ذلك بسبب الضوء المبهر القاسي، الذي يثقل وجه هذه المرأة، ويسبب تعرق جلدها، ويجعل الأشعة الحادة تلمع على القفل المذهب لحقيبة يدها؟
فجأة أسرعت مارتين وقفزت دراجتها على الطريق. وعلى الفور شعرت بالهواء يضرب وجهها، واختفت حيرتها. كانت تقود بسرعة متبوعة بتيتي. تتقدم الدراجتان وهما تفرقعان في الطريق الخاوي، تتباعدان السيدة ذات الرداء الأزرق تتبعهما للحظة بنظرها، وترى الدراجتين تدوران إلى جهة اليمين بعد شارعين. ثم تنطفئ فجأة الضجة الحادة للدراجتين.
بعد عدة منازل، ليس بعيدا عن محطة القطار، تنطلق الشاحنة الزرقاء ببطء، محملة بالأثاث وعلب الكرتون. شاحنة قديمة، مرتفعة عن عجلاتها. مدهونة بدهان أزرق رديء، أنهكها -منذ مليون من الكيلو مترات- السائقون المتتابعون، بضربات الكابح وبالطرق على علبة السرعة. كان الطريق الضيق أمام الشاحنة الزرقاء مزدحماً بالسيارات المتوقفة. أثناء مرورها أمام عدة مقاهي، انحنى السائق، إلا أنه لم ير إلا ظل أعماق الصالات. كان تعبا وجائعا، أو ربما كانت الشمس القاسية تنعكس على إسفلت الطريق، يحرك عينيه مقطبا وجهه. تسير الشاحنة بسرعة على طول الشارع الضيق، وهدير محركها يملأ الطريق. على ظهرها، في الخلف، يصرصر الأثاث وتحتك الأغراض داخل العلب فيما بينها. الرائحة الثقيلة تملأ قمرة القيادة، تتدفق إلى الخارج بشكل دخان أزرق تسحبه الشاحنة على طول الشارع. تتمايل الشاحنة وتسير على وقع اهتزازها، تتقدم إلى الأمام كحيوان غاضب. يطير الحمام أمام مقدمتها. تجتاز شارعا، شارعا آخر، بدون أن تبطئ، ربما، أعطتها المليون كيلومتر التي سارتها عبر شوارع المدينة الحق في العبور....
ثاني، ثالث، ثاني. تصرصر السرعات، يطقطق المحرك مخشخشا. على واجهات المحلات، يعبر الخيال الأزرق بسرعة، شبيها بحيوان ساخط.
هناك في طرف الرصيف، السيدة ذات الرداء الأزرق لازالت تنتظر. رأت ساعتها للمرة الثالثة، إلا أن العقارب بدت كما لو أنها لا تتحرك في هذه الوقت اللعين: الواحدة وخمس وعشرون دقيقة. بماذا تفكر؟ وجهها الأحمر هادئ، ضوء الشمس، بالكاد، يظهر ظلال محجريها، أنفها وذقنها. مضاءة جيدا من الأمام، كما لو أنها تمثال من الجص، ساكنة على طرف الرصيف. كانت الحياة تبدو فقط، على جلد حقيبة يدها الأسود وحذائها اللامع.،ظلها مكوم على قدميها كجلد مسلوخ، مرمي إلى الخلف قليلا. ربما لا تفكر بشيء، ولا حتى بالباص رقم سبعة الذي ينبغي _أن يأتي، الذي يسير بمحاذاة الأرصفة الخالية،الذي يتوقف في مكان ما لطفلين يذهبان إلى المدرسة الثانوية ثم لعجوز ببزة رمادية. إلا أن تفكيرها قد توقف، ينتظر مثلها بصمت. كانت أحيانا تنظر، فقط، إلى دراجة نارية تعبر صاخبة، وأحيانا، إلى سيارة تنزلق على الإسفلت، في هذا الصخب الحار لشارع رطب.
كل هذا يسير ببطء، ومع ذلك، هناك بريق يضرب العالم، إيماءات تلمع عبر المدينة، أضواء مجنونة. يمكن القول إن كل شيء هادئ جدا، على حافة النعاس، مع ذلك، هناك الضوضاء، الصرخات المكبوتة، هذا العنف.
تسير مارتين أمام تيتي، تنقض على الشوارع الخالية، تتمايل بدراجتها عند المنعطفات، بحيث أن ملامس الدواسات تلامس الأرض مرسلة حزمة من الشرار. الهواء الحار يملأ العيون بالدموع، يصطدم بفمها وبمنخريها، بما أجبرها على إدارة الرأس قليلا كي تستطيع التنفس. تتبعها تيتي على بعد عدة أمتار منها، شعرها الأحمر تطيره الريح، ملئ بالنشوة، هي أيضا، من السرعة ورائحة الوقود. يأخذهم الطواف بعيدا، عبر المدينة يقودهم ببطء، شارعا وراء شارع، نحو موقف الباص، حيث تنتظر السيدة ذات الحقيبة السوداء. الحركة الدائرية تصيبهم بالثمالة أيضا، الحركة التي تواجه خواء الشوارع، تواجه صمت الأبنية البيضاء، تواجه الضوء القاسي الذي يخطفهم. طواف الدراجات النارية يستمر على الأرض غير مبال، يحفر نداء، تسير الشاحنة والحافلة الخضراء عبر الشوارع، من أجل ذلك أيضا، من أجل أن يردم هذا الدوار من أجل أن ينتهي الطواف.
في الأبنية الجديدة، في الجانب الأخر من النوافذ الشبيهة بعيون مطفأة، الناس المجهولون، بالكاد، يعيشون، مختبئين وراء ستائرهم، عميان من الشاشات المرصعة لأجهزة تلفزيوناتهم. لا يرون الضوء الحاد، ولا السماء، لا يسمعون النداء الحاد للدراجات النارية التي تصدر صرخة. حتى أنهم ربما يجهلون أن أولادهم هم الذين يطوفون هذا الطواف، بناتهم ذوات الوجه الوديع الطفولي، ذوات الشعر المتشابك بالريح.
في زنانين شققهم المغلقة، لا يعرف الراشدون ما يجري في الخارج، لا يريدون معرفة ذلك الذي يدور في الشوارع الخاوية، على الدراجات المجنونة. كيف يستطيعون معرفة ذلك؟ إنهم سجناء الجبصين والحجارة، الأسمنت غزا لحومهم، سدت شراينهم.على شاشات تلفزيوناتهم المكفهرة، وجوه، مناظر طبيعية، شخصيات. صور تضاء، تنطفئ، تذبذب البريق الأزرق على وجوههم الساكنة. في الخارج تحت ضوء الشمس، ليس هناك مكان إلا للأحلام.
إذن، طواف الدراجات النارية سينتهي هنا، في شارع الحرية ربا. بالعكس،أصبح هادئا، والساقان لم تعودا ضعفتين، واليدان لم تعودا رطبتين. تسير الدراجتان بذات التناغم، الواحدة بجانب الأخرى، وصخبهما في تآلف، صخب يستطيع هدم الجسور وجدران المنازل. كان هناك أناس في الشارع متربصين في سياراتهم المتوقفة، مختبئين خلف ستائر غرفهم. يستطيعون المراقبة بعيونهم الضيقة، لكن بأي شيء يمكن أن يؤثر ذلك؟
بدون تباطؤ، صعدت الدراجة الأولى إلى الرصيف، اقتربت من السيدة ذات الرداء الأزرق. عندما حدث هذا، تماما قبل أن تقع، حدقت السيدة في مارتين التي كانت تسير أمامها في قناة ماء المطر، حدقت فيها أخيرا، عيناها الكبيرتان المفتوحتان، تظهران لون سوسنها الذي يعطي بريق نظرتها. غير أن هذا لم يدم إلا جزءا من مئة جزء من الثانية، بعد ذلك كانت هذه الصرخة التي رنت في الشارع الخالي، صرخة الألم والدهشة، فيما الدراجتان تهربان نحو التقاطع.
من جديد، تعود الريح الحارة، بصفيرها، ويقفز القلب في القفص الصدري، ويد مارتين، المشدودة على حقيبة اليد السوداء، ملئ بالعرق. الخواء يملأ داخلها، مادام الطواف قد انتهى، النشوة لم يعد لها أن تعود. بعيد ا إلى الأمام، تهرب تيتي، فيما شعرها الأحمر يطير في الريح. دراجتها كانت أسرع، فاجتازت التقاطع، مبتعدة. إلا أنه في اللحظة التي اجتازت فيها الدراجة الثانية التقاطع، خرجت من الشارع شاحنة النقل الزرقاء،كما لو أنها حيوان، نهش غطاؤها المعدني الدراجة وسحقها على الأرض، فيما علا صخب مروع للمعدن والزجاج. توقفت العجلات مفرملة نابحة....
عاد الصمت إلى الشارع، وسط التقاطع. على قارعة الطريق، تمدد جسد مارتين خلف الشاحنة الزرقاء، ملتفا حول نفسه كقطعة غسيل. لم يكن هناك ألم، ليس بعد، فيما كانت تنظر إلى السماء، بعينين كبيرتين مفتوحتين، وبفم يرتجف قليلا. إلا أن خواء شديدا لا يطاق، طغى عليها، فيما كان دمها يسيل بتعرج أسود من ساقيها المسحوقتين. على قارعة الطريق، ليس بعيد ا من ذراعيها، كانت الحقيبة السوداء، كما لو أنها قد نسيت بسذاجة على الأرض، وقفلها المعدني المذهب يرسل إلى العيون بريقا قاتلا.