الخطيئة الأصلية لإسرائيل
ترميم النسيان
في ذكراها الخمسينية، 14 أيار (مايو) 1998، نشرت دولة إسرائيل من خلال وزارة تربيتها كتاب اليوبيل، الذي يهدف إلى إحياء ذكرى الحدث في كل مدارس البلاد. تخبرنا صحيفة هآرتس(1) اليومية الجادة جداً « بأن الكتاب لا يشير أي إشارة إلى وجود الشعب الفلسطيني، لا قبل تأسيس إسرائيل، ولا بعد، ولا إلى مشروع التقسيم عام 1947 الذي أنشأ دولتين -الأولى يهودية والأخرى عربية- في فلسطين»
أكثر من ذلك، يضيف الصحفي ريلي سعار Relly Sa’ar: «يعرض الفصل الذي يخص جهود السلام الاتفاقيات التي وقعت مع مصر والأردن، غير أنه يتجاهل تماماً اتفاقيات أوسلو وعملية السلام الحالية مع الفلسطينيين.» لا يمكن القول إلى أي درجة، ولاسيما في الشرق الأوسط، كيف لا يفترق الحاضر عن الماضي، وإلى أي درجة يظل تاريخ أصول القضية الفلسطينية مجازفة خطرة.
ما بين مشروع تقسيم فلسطين الذي تبنته الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 واتفاقيات الهدنة في عام 1949 المتتابعة في الحرب الإسرائيلية العربية الأولى التي اندلعت بعد دخول القوات العربية في 15 أيار (مايو) 1948، غادر مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في الأراضي التي احتلتها في النهاية إسرائيل وطنهم.
أكد المؤرخون الفلسطينيون والعرب دائماً، بأن ذلك كان ترحيلاً. ويشرحون بأن الغالبية الواسعة من اللاجئين (يقدر عددهم ما بين 700000 و900000) كانوا مجبرين على المغادرة خلال المواجهات في الحرب اليهودية الفلسطينية، ثم في الحرب الإسرائيلية العربية، في إطار مشروع سياسي عسكري للترحيل دلّت عليه العديد من المجازر. هذه هي الأطروحة التي يدافع عنها وليد الخالدي منذ عام 1961، في دراسته المعنونة بـ« Plan Dalet: Master Plan for the Conquest of Palestin (2)» وحديثا من قبل إلياس صنبر في «فلسطين 1948: الترحيل(3)».
وعلى النقيض من ذلك، فإنه حسب الكتابة التاريخية الإسرائيلية التقليدية، هرب معظم اللاجئين (على الأكثر 500000) بإرادتهم، مستجيبين لنداءات قادتهم الذين وعدوهم بعودة سريعة بعد النصر. إن مسئولي الوكالة اليهودية وبعدهم الحكومة الإسرائيلية لم يخططوا لعملية الترحيل، وكذلك فإن المجازر النادرة التي يرثى لها -في الدرجة الأولى دير ياسين في 9 نيسان (أبريل) 1948- كانت من صنع ميليشيا الآرغون وليحي فقط، التنظيمات التي ورثت الصهيونية التصحيحية لفلاديمير زئيف جابوتنسكي.
إلا أنه منذ سنوات الخمسينيات، احتجت على هذه الرؤية العديد من الشخصيات الإسرائيلية المرتبطة بالحركة الشيوعية، بالإضافة إلى بعض دوائر اليسار الصهيوني (ولا سيما حزب المابام). ومنذ النصف الثاني من سنوات الثمانينات، التحق بهم في انتقاداتهم العديد من الصحفيين والباحثين، خاصة سيمحا فلابان Simha Flapan، توم سيغف Tom Segev، آفي شلايم Avi Schlaim، إيلان بابه Ilan Pappe، بني موريس Benny Morris. هذا الأخير في كتابه «نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947-1949 the Birth of the Palestinian Refugee Problem 1947-1949 » أعلن الفضيحة وصنف للمرة الأولى أصدقاءه «بالمؤرخين الجدد»(4). في اختلاف مواضيعهم ومناهجهم وأرائهم، يوحد هؤلاء المثقفين هجومهم على أساطير تاريخ إسرائيل(5)، ويعيدون النظر بشكل خاص في الحرب الإسرائيلية العربية الأولى، ويساهمون في الإحاطة بأقرب ما يمكن من الحقيقة حول رحيل الفلسطينيين، جزئياً على الأقل، كما سنرى. أثار هؤلاء بما فيه الكفاية حنق المؤرخين التقليديين الذين يجهدون في نصب الحواجز في وجههم.
على أي حال، كان من الواضح أن فتح الأرشيفات الإسرائيلية العامة والخاصة المتعلقة بتلك المرحلة بحرية كافية، استناداً إلى قانون الـ 30 عاماً، هو المحرض الرئيس لـ «المؤرخين الجدد». مما جعل الباحثين يغرفون بوفرة من مصادرهم. كان ذلك ميزة لهم ولكنه في الوقت ذاته شّكل عائقاً لهم، فكما يبدو أنهم كانوا يجهلون أرشيفات الدول العربية بشكل شبه كامل، صحيح أنه ليس من السهل الوصول إلى الذاكرة الشفهية للفلسطينيين، ولكن هناك من يتمسك بجمعها. وكما يقول المؤرخ الفلسطيني نور مصالحة: «لا يجب أن يكون التاريخ والكتابة التاريخية مكتوبة بالمطلق أو بشكل أساسي من قبل المنتصرين.». ومن الجدير ذكره، أن إمكانية الوصول إلى الأرشيفات البريطانية والأمريكية قد سّهل عمل الباحثين.
غير أن الغوص في الأرشيفات الإسرائيلية والأنغلوساكسونية، لن يكون مثمراً، دون شك، لو لم تكون السنوات العشر التي تبعت وضعها تحت تصرف الباحثين قد وشمتها حرب لبنان عام 1982 واندلاع الانتفاضة عام 1987 التي زادت، في إسرائيل نفسها، الانقسام بين معسكر القوميين ومعسكر السلام. يشدد آفي شلايم بشكل خاص على أن حرب لبنان كانت حرباً هجومية، كما روى ذلك مناحيم بيغن بنفسه. يكتب:«مع هذا الاعتراف الذي لا سابقة له في تاريخ الحركة الصهيونية، بدأ الاجماع الوطني حول مفهوم "عدم وجود خيار آخر ein brera" في التفتت، منشئاً جواً سياسياً لإعادة السبر النقدي لتاريخ البلاد السابق.(7)» أما إيلان بابيه، رائد آخر «للتاريخ الجديد»، فإنه يرى أنه ليس مصادفة ترافق الكشف عن جذور المشكلة الفلسطينية مع عودة الأخيرة إلى السطح عبر الحوار الإسرائيلي الفلسطيني في زمن الانتفاضة «الذي قاده، محدداً، بشكل أساسي جامعيين. ومن المدهش أيضاً أنه، بوساطة هذا الحوار اطلع معظم الباحثين الذين يعملون على تاريخ بلادهم والذين لم يكونوا على صلة بالمجموعات السياسية المتطرفة، على النسخة التاريخية لنظرائهم الفلسطينيين. قدَّر عدد لا بأس به، بمناسبة هذا الحوار، القيمة الحقيقية للأبحاث الجامعية التي كان ينظر إليها حتى ذاك الوقت على أنها دعاية خالصة. وانكشفت بعض الفصول الكريهة والمزعجة من التاريخ الإسرائيلي. إلا أن الباحثين الإسرائيليين أدركوا التناقض الأساسي بين الطموحات القومية الصهيونية والشروع في تنفيذها على حساب السكان المحليين في فلسطين(8)».
إن التلاعب في التاريخ لغايات سياسية ليس محصوراً بالطبع عند الإسرائيليين، إن ذلك يتوافق على الغالب مع الأيديولوجيات القومية. وغالباً ما ابتعدت الأجيال الجديدة، بدرجات مختلفة، عن التلفيق الإيديولوجي للماضي. وهكذا، فإن مناهح «المؤرخين الجدد» والصدى الذي لاقوه، يعكسان موقفاً أكثر «علمانية» للمجتمع الإسرائيلي إزاء تاريخه، كما في الكثير من المجتمعات.
يذهب توم سيغف بعيداً، ويحتج على تعبير «المؤرخين الجدد»، بما أنه «يثير الانطباع بأن المقصود مؤرخين «مراجعين»، أي أناس يجرون مراجعة لإطروحات الكتابة التاريخية المتداولة أو مناهج البحث المستعملة حالياً. من الفطنة، ينبغي اعتبار هؤلاء الناس كـ «مؤرخين أوائل»، يعملون في بلد لاتوجد فيه كتابة تاريخية حقيقية. ما كان يملكه هذا البلد هو عقيدة أسطورية (……). لأجل ذلك لا بد من الحديث عن جيل أول من المؤرخين؛ مؤرخون يكتشفون أرضاً جديدة(9)».
الشجاعة هي الكلمة المناسبة لوصف التزام «المؤرخين الجدد» الإسرائيليين، والمناقشة التي أثارتها أعمالهم والانتقادات التي تعرضوا لها دون شك- الفصل الثامن مكرس لذلك. لأنهم لا يساهمون بالاقتراب من حقيقة صفحة عادية من صفحات التاريخ، وإنما يعرون خطيئة إسرائيل الأصلية- باستعارة فكرة شبتاي تيفث، إنهم يشككون بشرعية الدولة اليهودية. مع ذلك، هل من اللازم أن يُقصي حق الناجين من الإبادة الهتلرية-الحق الذي لا يمكن المجادلة به- حق بنات وأبناء فلسطين من العيش هم أيضاً في سلام في دولتهم -الحق الذي لا يمكن أيضاً أن يجادل به؟ بعد خمسين سنة، آن الأوان للتخلص من هذا المنطق الموّلد للحرب، وأن يفسح المجال لأن يتعايش الشعبان، دون أن نلقي حجاباً على أصول المأساة...
لم تسمع عندنا (فرنسا) هذه اللغة ذات الإدراك السليم. مرت عشر سنوات على صدور «The Birth of the Palestinian Refugee Problem»، وبرغم أن مصادره الأساسية من الأرشيف الإسرائيلي، فإنه لم يترجم ولم ينشر في فرنسا. باستثناء «المليون السابعSeptieme million»»، دراسة توم سيغف حول إسرائيل والإبادة، المنشور من قبل ليانا ليفي، لم يحظ أي «مؤرخ جديد» بالانتباه من أي ناشر فرنسي(10). أياً كان السبب، أيديولوجياً أو/و تجارياً، يكشف هذه المنع عن مفارقة: أن الإسرائيليين لهم الحق في فهم ظروف نشأة دولتهم جيداً، وفي الوقت نفسه، المشكلة الفلسطينية، أما الفرنسيين فلا يحق لهم ذلك!
بعد نصف قرن على إنشاء دولة إسرائيل، وبعد عقد من ظهور الكتب الأولى للتاريخ الجدير بحمل هذا الاسم، آن الآوان لإصلاح «النسيان».
هوامش
Haaretz, Tel Aviv, 27 janvier 1998.
In Middle East Forum, novembre 1961,republié avec un nouveau commentaire par le Journal of Palestine Studies, publié par University of California Press pour I’Institute for Palestine Studies et Kuwait University, Berkeley, n0 69, vol. XVIII, 1988.
Les livres de la Revue d’études palestiniennes, Paris, 1984.
Leurs livres les plus importants sont: Simha Flapan, The Birth of israel; Myths and Realities, Crooni Helm, Londres et Sydney, 1987 ; Tom Segev, 1949. The First Israelis, Free Press MacMillan, New York Londres, 1986; Avi Shlaim, Collusion Across the Jordan. King Abdullah, the Zionist Movement and the Partition of Palestine, Clarendon Press, Oxford, 1988; llan Pappé, Britain and the Arab-israeli Conflict, 1948-1951, MacMillan, New York, 1988, et The Making of the Arab-Israeli Conflict, 1947-1951, I. B. Tauris, Londres et New York, 1992 ; et Benny Morris, The Birth of the Palestinian Refugee Problem, 1947-1949, Cambridge University Press, Cambridge, 1987, et 1948 and After. Israel and the Palestinians, Clarendon Press, Oxford, 1990.
La remise en cause ne se limite évidemment pas à la première guerre israélo-arabe: elle touche aussi l’attitude de la direction sioniste face au génocide (avec en particulier The Seventh Million de Tom Segev, traduit en français chez Liana Levi en 1992), voire la nature de la colonisation juive a l’époque du mandat britannique. De même, Benny Morris a poursuivi son exploration des archives pour mettre a jour l’expansionnisme israélien dans les années 50 (Israel’s Border Wars Arab Infiltration, Israeli Retaliation and the Countdown to the Suez War, Clarendon Press, Oxford, 1993). Elle s’étend également à d’autres disciplines que l’histoire, en premier lieu la sociologie, avec en particulier la question de la place des Juifs orientaux dans la société israélienne, des origines à nos jours...
Nur Masalha, “1948 and After” revisited , Journal of Palestine Studies; publié par University of California Press pour l’Institute of Palestine Studies et Kuwait University, Berkeley, n” 96, vol. XXIV, 1995, p. 95.
Avi Shlaim, The Debate about 1948, international Journal for Middle Eastern Studies, n” 27, publié par Cambridge University Press, New York, 1995, P. 290.
Ilan Pappé, La critique post-sioniste en Israël, Revue d’études palestiniennes, Paris, n0 12, été 1997, p. 35.
Tom Segev, «Les nouveaux historiens pourquoi sont-ils si agaçants?» , in «Les nouveaux enjeux de l’historiographie israélienne» , édité par Florence Heymann, Lettre d’in formation du Centre de recherche français de Jérusalem, Jérusalem. n” 12, décembre 1995.
Les premiers Israéliens, de Tom Segou, a été publie en février 1998 par CalmannLevy, douze ans après la version originale en hébreu. Le livre porte sur la période consécutive au premier conflit israélo-arabe.