عالم مكتوب وعالم غير مكتوب
إيتالو كالفينو
«عالم مكتوب وعالم غير مكتوب» نص محاضرة ألقيت في 1983 في معهد الإنسانيات في جامعة نيويورك. ونشرت أولاً بالإنكليزية في New York Review of Books ثم بالإيطالية في مجلة Lettera internazionale العدد 45 سنة 1985. نشر النص بالفرنسية في مجلة europe العدد 815 أذار (مارس) 1997، وعنها ترجم إلى العربية.
|
أنتمي إلى ذلك الجزء من الإنسانية -أقلية على مستوى العالم، ولكنه، يبدو لي، أكثرية على مستوى جمهوري- الذي يمضي جزءاً كبيراً من ساعات سهرته في عالم خاص، عالم مصنوع من أسطر أفقية حيث تتعاقب الكلمات واحدة وراء الأخرى، حيث تشغل كل عبارة وكل فقرة مكاناً محدداً: عالم ٌ يستطيع تأكيد غناه، بل ربما يظهر غنى أكثر من العالم اللا مكتوب، لكنه، مع ذلك يتطلب ملائمة خاصة للتوجه فيه. حين انفصل عن العالم المكتوب، لأستعيد مكاني في الآخر، -ذلك الذي اعتدنا على تسميته بالعالم، ذي الثلاثة أبعاد والخمس حواس، المسكون بالمليارات من نظائرنا-يبدو لي ذلك كما لو أنه إعادة في كل مرة لصدمة الولادة، إضفاء شكل من الحقيقة المعقولية لمجموع من الحواس الغامضة، اختيار استراتيجية لمجابهة اللا منتظر دون أن أهلك.
هذه الولادة الجديدة تترافق دوماً مع طقوس خاصة تشير إلى فعل الدخول في حياة مختلفة: على سبيل المثال، طقس ارتدائي لنظارتي، كوني مصاب بحسر نظر وأقرأ دون نظارة، فيما الأغلبية مصابة ببعد نظر بما يفرض الطقس النقيض: خلع النظارة التي يستخدمونها للقراءة.
كل طقس يعني تغير موقف عقلي: عندما أقرأ، كل عبارة يجب أن تكون مفهومة بذهنية يقظة، على الأقل في معناها الأدبي، بما يسمح لي تكوين حكم ما: فيما إذا كان الذي أقرأه صحيحاً أم خاطئاً، دقيقاً أم مغلوطاً، باعثاً على السرور أو على الكدر. بالمقابل، في العديد من ظروف الحياة اليومية، قدرتي على الفهم تكون معابة: أجد نفسي في حالة علي إعطاء رأي من المستحيل عليّ تكوينه، لذا أفضل أن امتنع عن إصدار أي حكم.
وفيما انتظر اتضاح العالم اللا مكتوب لعيني، هناك دائماً صفحة مكتوبة بمتناول اليد حيث أستطيع الغوص فيها، فأسرع إليها لأجل مسرتي الكبرى، حتى ولو لم أدرك سوى جزءاً صغيراً من الكلّ، أستطيع أن ألامس وهم أني قادر على قراءة كل شيء.
أظن أن الأمر كان على ذات المنوال زمن شبابي، لكن، كان لدي وهم الاعتقاد بأن العالم المكتوب والعالم اللا مكتوب يمكن أن يوضحا أحدهما الآخر، بأن تجارب الحياة وتجارب القراء كانت، بشكل ما، متكاملة، كل خطوة في جانب ترتبط بخطوة في الجانب الآخر. اليوم، أستطيع القول بأن معرفتي عن العالم المكتوب نمت بشكل كبير: في الكتب، يمكن الحصول دائماً على التجربة، ولكن، مجال صلاحيتها لا يتعدى الهامش الأبيض للورقة. على النقيض، كل ما يجري في العالم المحيط بي لا يتوقف عن مفاجأتي، عن تثبيطي، عن تشويشي. أثناء حياتي، شاهدت تغيرات في العالم الواسع، في المجتمع، وفي ذاتي، مع ذلك، فإني غير قادر عن التنبؤ، سواء لنفسي أو لمن أعرفهم أو حتى لما يخص الإنسانية. لن أكون قادراً على التنبؤ في العلاقات المستقبلية بين الجنسين، بين الأجيال، التطورات القادمة للمجتمعات، للمدن، للأمم، أي مصير للسلام أو للحرب سنعرفه، ماذا ستعني النقود، أي أشياء ألفناها ستختفي، لصالح أي أشياء جديدة، أي وسائل مواصلات ستستخدم، كيف ستصير البحار، الأنهار، الحيوانات، النباتات... اعلم جيداً أني أشارك هذا الجهل مع هؤلاء الذين يدعون المعرفة: علماء اقتصاد واجتماع، سياسيون، غير أن عدم كوني وحيداً لا يحمل أي عزاء لي.
بالمقابل، يوجد نوع ما من العزاء في الفكرة القائلة بأن الأدب قد فهم الأشياء دائما أكثر من حقول المعرفة الأخرى، هذه الحقيقة تذكرني بأن القدماء تناولوا الأدب كمدرسة للحكمة، رغم أني أدرك إلى أي مدى ترتبط، اليوم، فكرة الحكمة بالمستحيل.
من اللحظة التي ستسألوني فيها: إذا كان العالم الحقيقي بالنسبة لك هو الصفحة المكتوبة، وإذا كنت لا تشعر بالحرية إلا فيها، لماذا تريد الانفصال عنها، لماذا تريد أن تغادر في مغامرة بهذا العالم الواسع الذي لا يمكنك السيطرة عليه؟ الجواب بسيط: للكتابة. لأني كاتب. ما ينتظر مني هو أن أحدق في العالم المحيط وأن أقبض في تعاقب الأحداث على بعض الصور الموجزة، لأعود مباشرة أنحني إلى مكتبي، أواصل عملي. كي أواصل صناعتي للكلمات عليّ أن استخرج وقوداً من العالم اللا مكتوب.
ولكن هل هذا ما يحدث حقاً؟ الاتجاهات الفلسفية الأساسية المعاصرة تقول لنا: لا، لاشيء من هذا صحيح. روح الكاتب مشوشة بين تيارين فلسفيين: الأول يؤكد بأن العالم ليس موجوداً، وحدها اللغة هي الموجودة. فيما يؤكد الثاني بأن اللغة المشتركة ليس لها معنى، العالم فائق الوصف. حسب الأول تستعيد كثافة اللغة عالماً مصنوعاً من الظلال، حسب الآخر، العالم هو الأساس، مثل تمثال من حجر أبكم، صحراء الكلمات: حبيبات رمل تنتقل حسب مشيئة الريح. أوجد التيار الأول أسسه خلال الخمسة وعشرين عاماً الأخيرة، أما الثاني فقد ولد في فينا في بداية هذا القرن. تطور عبر عدة هجرات، ليسترد حديثاً وجوده، حتى في ايطاليا. هاتان الفلسفتان لهما قاعدة صلبة. تمثلان تحدٍ حقيقي للكاتب، الأول يتطلب استعمال لغة لا تُحال إلا لذاتها، لقوانينها الداخلية. أما الثاني فيتطلب استعمال لغة قادرة على مواجهة صمت العالم. كلا التياران يمارسان عليّ سحرهما وتأثيرهما. هذا ما يعني بأني لم أعد أتبع هذا ولا ذاك، لم أعد أومن بهذا أو ذاك. إذن، بماذا أومن؟
لنرى فيما إذا كنت أستطيع أن استخلص بعض المزايا من هذه الحالة الصعبة: في المقام الأول، إذا فحصنا بدقة التعارض الشديد بين المكتوب واللا مكتوب، سندرك تماماً ماهية العالم المكتوب: لا يمكننا أن ننسى بأنه عالم مصنوع من كلمات، مستخدمة حسب تقنيات واستراتيجيات اللغة، حسب هذه الأنظمة الخاصة التي تتحكم في المعاني والعلاقات بين المدلولات. إننا نفهم جيداً بأنه حينما نروي قصة (تقريباً كل النصوص المكتوبة تروي قصة، حتى المحاولة الفلسفية أو تقرير أعمال شركة مغفلة، أو حتى وصفة وجبة ما) تكون مكونة وفق آلية شبيهة بآلية أي قصة كانت.
إنها خبرة هامة جداً: نحن، اليوم، قادرون على تجنب الكثير من الغموض بين، ما ينتمي إلى نظام اللغة وبين ذلك الذي لا ينتمي إليه. نستطيع أيضاً أن نفهم بوضوح العلاقات التي تنشا بين هذين العالمين.
لم يبق أمامي إلا أن أثير الحجة المضادة، التحقق بأن العالم الخارجي دائماً موجود، وبأنه لا يعتمد على الكلمات، وبأنه حتى، بشكل أو بآخر، لا يمكن اختزاله بالكلمات، ولا توجد أي لغة و أي كتابة تستطيع أن تستنفذه. يكفيني أن اترك خلفي الكلمات المرصوصة في الكتب، أن أغوص في العالم الخارجي، أملاً الوصول إلى قلب الصمت، الصمت الحقيقي، المشبع بالمعاني... لكن أي طريق يقود إليه؟
يُسرُ كثر لشراء صحيفة كل صباح، كي يكونوا على صلة مع العالم الخارجي. إنها ليست سذاجتي. اعلم أنه لا يمكن عبر الصحف سوى استخلاص قراءة واحدة للعالم، قراءة صنعت من قبل آخرين، أو أنها بالأحرى أنتجت بواسطة آلة مجهولة مهمتها غربلة ذلك ما سيكون «أنباء» بين الغبار اللا منتهية للأحداث.
يشعل آخرون أجهزة التلفزيون، للهروب من نفوذ العالم المكتوب. إلا أني أعلم بالمقابل أن الصور، حتى الملتقطة عن الحياة الواقعية، هي جزء من خطاب مبني على غرار الخطاب الصحفي. إذن، دون شراء صحيفة أو دون مشاهدة التلفاز، سأسر بالذهاب في نزهة ما.
لكن ما أراه في شوارع المدينة له دور مقرر من قبل في سياق الإعلام المتجانس. هذا العالم الذي أراه، المتفق على تسميته بـ «العالم»، يمثل إلى عيوني، على الأقل بجانب كبير منه، كما لو انه مغزو، مستعمر بالكلمات: عالم تثقله قشرة سميكة من الأيدلوجيا. أحداث عصرنا، نسقت، حكم عليها، علق عليها من قبل، حتى من قبل أن تُنتج. نحن نعيش في عالم قرأ فيه كل شيء من قبل أن يبدأ في الوجود.
ليس فقط ما نراه، لكن، حتى عيوننا مشبعة بلغة مكتوبة. عادة القراءة حولت عبر القرون الإنسان العارف L’homo sapiens إلى إنسان قارئ homo legens لكن هذا لا يعني أن هذا الإنسان القارئ homo legens أكثر معرفة. الإنسان الذي لم يكن يقرأ كان قادراً على الرؤية والإنصات لأشياء كثيرة لم نعد نحن قادرين على إدراكها: آثار الحيوانات التي كان يصطادها، الإشارات التي تسبق الريح والمطر، كان يعرف ساعات النهار في رؤيته لظل شجرة وساعات الليل ضبطها عل أساس ارتفاع النجوم في الأفق. أما تفوقه علينا في حواس السمع والشم والتذوق واللمس فهو ليس موضع شك.
حديثي لا يهدف إلى تبجيل عودة إلى الأمية من أجل استرجاع معرفة قبائل العصر الحجري. إني أرثي كل ما أضعناه، لا أنسى أبداً أن المكسب تجاوز الخسارة. ما أحاول فهمه، هو ما نستطيع فعله اليوم.
كوني ايطالياً، كوني كاتب من بلد يحجب باستمرار الفهم عن كل من يحاول ذلك، علي أن أشير للصعوبات الخاصة التي ألاقيها مع العالم ومع اللغة. ايطاليا بلد غزيرة بالقصص الغامضة: تناقش مطولاً، يعلق عليها كل يوم، دون أن يوجد أبداً مفتاح اللغز. إنها بلدٌ يكتم فيها كل حدث مؤامرة سرية محكوم عليها أن لا تكون واضحة بلد، فيه أي قصة لاتصل نهايتها لأننا نجهل البداية. يمكن أحياناً بين البداية والنهاية الغائبتين تذوق تفاصيل كثيرة. ايطاليا بلد يعيش فيه المجتمع تغيرات سريعة، حتى في مجال الأخلاق والسلوك: سريعة جداً بحيث أننا لا نستطيع فهم في أي اتجاه نحن ذاهبون، بينما ينغمر كل فعل جديد بجرف من الاحتجاجات وصرخات الإنذار أمام تهديدات الانحطاط والكارثة، إلا إذا أعيدت تغطيته باقتراحات مرضية لاستعدادنا التقليدي للتلاؤم مع الظروف والبقاء.
لأجل هذا، القصص التي نستطيع روايتها تحمل بصمة لمعنى المجهول وتظهر في الآن ذاته حاجة للبناء، للأسطر المرسومة بدقة، فيها قلق التآلف والدقة الهندسية، إنها طريقتنا لمقاومة الرمال المتحركة التي نشعر بها تحت أقدامنا.
فيما يتعلق باللغة، فقد أصيبت بنوع من الطاعون. لقد أصبحت اللغة الإيطالية شيئاً فشيئاً لغة مجردة، مصطنعة، غامضة، لا تقال فيها أبداً الأشياء الأكثر بساطة مباشرةً، إننا نشهد خلخلة في استخدام الموصوفات المادية. انتشر هذا الوباء أولاً بين رجال السياسة، والبيروقراطيون، والمثقفون ثم تم تعميمه ليصيب طبقات أكثر اتساعاً في الوعي السياسي والفكري. واجب الكاتب مكافحة هذا الطاعون، باتباع لغة مباشرة وملموسة. ولكنها هنا تكمن المشكلة: اللغة اليومية، هذا النبع الحي الذي كان الكتاب حتى الأمس يستطيعون الارتواء منه، لم تفلت اليوم من العدوى.
وعليه، اعتقد أننا، نحن الإيطاليون في حالة مثالية لتأسيس روابط بين صعوبتنا الحالية لكتابة الرواية ومسألة أكثر عمومية تتعلق باللغة وبالعالم.
يوجد في ثقافة قرننا اتجاه عالمي قوي يمكن تسميته بالمقاربة الظاهرية في الفلسفة وأثر البعد والغرابة في الأدب هذا الاتجاه يدفعنا إلى كسر ستارة الألفاظ والمفاهيم ورؤية العالم كما يمثل أمامنا للمرة الأولى. إذاً سأحاول الآن عزل روحي وإلقاء نظرة على الطبيعة، نظرة حرة من كل سابق وسالف ثقافي. ماذا سيحدث؟ حياتنا مبرمجة على القراءة، سألاحظ بأني أحاول قراءة الطبيعة، المروج، أمواج البحر. هذه البرمجة لا تعني بأن عيوننا مجبرة على تتبع حركة فطرية وأفقية من اليسار إلى اليمين، ثم من جديد ، قليلاً إلى الأسفل من اليسار وهكذا بالتتالي. (من الطبيعي، أني أتكلم عن عيون مبرمجة لقراءة صفحات غربية، العيون اليابانية تتبع برنامجاً عمودياً) القراءة هي عملية أكثر من مجرد تمرين بصري، إنها عملية يشترك فيها معاً العقل والعيون، يمكننا الكلام عن عملية تجريد، أو بالأحرى تجذير للتكثيف، عن طريق عمليات مجردة، كالتعرف على العلامات الفارقة، كتجزئة كل ما نراه إلى عناصر صغيرة، كإعادة تكوين هذه العناصر في أجزاء لها معنى، أو كالكشف حولنا عن التناسق، عن الاختلاف، عن التكرار عن التميز، عن الاستبدال، عن الحشو واللغو.
التوازي بين العالم والكتاب عرف تاريخاً طويلاً منذ القرون الوسطى وعصر النهضة. بأي لغة كتب كتاب العالم؟ بعد غاليله، كان المراد لغة ذات دقة مطلقة، إنها لغة الرياضيات والهندسة. أبهذه الطريقة نستطيع قراءة عالم اليوم؟ نعم دون شك، إذا كنا نريد قراءة البعيد جداً: مجرات الكازار ، سيبرنوفا . لكن عالمنا اليومي يظهر لنا بأنه مكتوب بموزاييك لغوي، كحائط مغطى بنقوش جدارية، مليئة بنقوس متراكبة. طرس ذو مُهرْق حفر عليه وكتب عدة مرات، لاصق من شويترز، Schwitters، حروف منضدة، تنويهات غير متجانسة، عبارات أرغوية، حروف تقفز كالحروف التي تظهر على شاشة الحاسب.
أتكون مهمتنا إنتاج محاكاة من لغة العالم هذه؟ هذا ما فعله عدة كتاب مهمون من قرننا: يمكننا إيجاد مثالاً على ذلك في الأناشيد لعيزرا بوند، عند جويس أو في بعض الصفحات المدوخة لغادا Gadda المسكونة دائماً بوسواس ربط أدق التفاصيل بشمولية الكون. لكن أتكون المحاكاة حقاً الطريق الصحيح؟ كنت قد انطلقت من المعارضة المتنافرة بين العالم المكتوب والعالم اللا مكتوب: إذا كان بإمكان لغتاهما أن يجريان انصهاراً فيما بينهما، فإن أحكامي ستنهار. التحدي الحقيقي للكاتب هو التكلم عن التشابك المعقد لحالتنا باستخدام لغة شفافة جداً، لغة تخلق مشاعر هلوسة وتخيل كما استطاع فعلها كافكا.
ربما تكون العملية الأولى لتجديد العلاقة بين اللغة والعالم أكثر بساطة: تحديد الانتباه على غرض ما، عادي جداً، مألوف جداً، والسعي لوصفه بأكثر دقة ممكنة كما لو أنه الشيء الأكثر حداثة وتفرداً في العالم.
أحد الدروس التي يمكن أن تستخلص من شعر عصرنا، نجدها في إيقاظ كل انتباهنا، إيقاظ كل حبنا للتفاصيل في مواجهة الأشياء البعيدة جداً عن الصورة الإنسانية: شيء ما، نبتة أو حيوان، نستطيع من خلالها تحديد علاقتنا مع الواقع، أخلاقنا، الأنا، كما فعله وليم كارلوس وليم مع بخور مريم وماريان مور مع قوقعة. أو إغنيو مونتال مع أنقليس.
في فرنسا، منذ أن بدأ فرنسيس بونج كتابة قصائد نثرية عن أشياء وضيعة جداً كقطعة صابون أو قطعة فحم، تابعت مشكلة «الشيء في ذاته»وجودها في البحث الأدبي، مع سارتر أو كامو. لتصل إلى تعبير مغال جداً في وصف روب غريه لقطعة بندورة. غير أني أعتقد أن الكلمة الأخيرة لم تقل بعد. حديثاً في ألمانيا كتب بيتر هاندك رواية مبنية كلياً على المناظر الطبيعية. في ايطاليا ذاتها، تشكل الرؤية البصرية قاسم مشترك لبعض الكتاب الجدد الذين قرأت لهم.
اهتمامي بالوصف جاء ايضاً من كون كتابي الأخير «بالومار» يحتوي على الكثير منه. حاولت أن أجعل الوصف أن يصبح قصة، على أن يبقى وصفاً. في كل واحدة من قصص بالومار شخصية تنطلق من تفكيرها حصراً مما تراه وتحذر من كل فكرٍ يمثلُ لها عبر قناة أخرى. المشكلة التي واجهتني في كتابة هذا الكتاب تتمثل بأني لم أكن أبداً ذلك الذي يسمى مراقب، لذا كانت مهمتي الأولى تكمن في تركيز انتباهي على شيء ما ثم وصفه، أو بالآحرى كان علي أن أتم العمليتان في ذات الوقت، كوني مجردٌ من نعمة القدرة على المراقبة، إذا نظرت إلى إغوانة في حديقة حيوان، دون وصف ذلك الذي رأيته حالاً فإنني سأنساه.
علي أن أقول أن الكتب التي كتبتها أو لدي الرغبة في كتابتها تولد في معظم الأحيان من الفكرة بأنه من المستحيل علي كتابة مثل هذه الكتب. عندما أعتقد أن نوعاً ما من الكتب أكبر كلياً من إمكانيات مزاجي وقدراتي التقنية، أجلس على طاولتي وأبدأ الكتابة.
هكذا كان مع «إذا مسافر.. ذات ليلة شتاء»: بدأت بتخيل كل أشكال الرواية التي لن أكتبها أبداً، بعد ذلك حاولت كتابتها، أردت أن أثير في ذاتي طاقة إبداع عشرة روائيين متخيلين.
أعمل على كتابة كتاباً آخر يتحدث عن الحواس الخمس، وذلك للكشف عن أن الإنسان المعاصر أضاع استعمالها. أواجه أيضاً هنا مشاكل جديدة، لأن حاسة الشم عندي ليست قوية، وكذلك تنقصني الحدة السمعية، ولست ذواقاً وحاستي اللمسية تخمينية، وفضلاً عن أني مصاب بحسر نظر، لذا علي بذل الجهد لكل حاسة من الحواس الخمس، والسعي للتمكن من كل نسق من الأحاسيس والفروق. لا أدري إن كنت سأستطيع ولكن في هذه الحالة كما في حالات أخرى، يرتكز هدفي على الأقل إلى كتابة كتاب يغيرني، مادام ، حسب ظني، لأن التغير هدف يجب أن يعزى لكل مشروع إنساني.
أنتم تستطيعون الاعتراض بأنكم تفضلون الكتب التي تحمل خبرة مليئة كاملة وحقيقية. اعترف بذلك أنا أيضاً. غير أنه في خبرتي، رغبة الكتابة دائماً كانت ترتبط بفقدان شيء ما نريد معرفته وامتلاكه، شيء ما يفلت منا. وبما أني أعرف جيداً هذا النوع من الرغبة، اعتقد أنه يستبان وجودها حتى عند الكتاب الذين يبدو أن صوتهم يصلنا من ذرى التجربة المطلقة. ما ينقلونه لنا هو فهم أساليب معايشة التجربة، أكثر من فهم التجربة، سرهم يكمن في القدرة على حفظ قوة الرغبة سليمة.
من زاوية معينة، أعتقد أننا نكتب دائماً عن موضوع لا نعرفه، نكتب من أجل أن نسمح للعالم اللا مكتوب أن يعبر عن نفسه من خلالنا. من اللحظة التي ينحرف فيها انتباهي عن النظام المرتب للأسطر المكتوبة كي أتبع التعقيد المتحرك لهذا الشيء الذي لا تستطيع العبارة احتوائه أو استنفاذه، يتولد لدي الانطباع بأني على وشك فهم أنه هناك في الطرف الآخر للكلمات شيء ما يحاول الخروج من الصمت، أن يعبر عبر اللغة، كطرقات تقرع جدران السجن.
عن Europe, N.815 Mars 1997