«إميل» جاك روسو والتربية
كلّ من كان لديه صبرٌ لقراءة «إميل» بأكمله –وليس من خلال بعض الاستشهادات- يعلم أن هذا الكتاب يتحدث عن كلّ ما يهم الفلسفة في القرن الثامن عشر، وأن «إميل» ليس ما اعتيد على تسميته «كتاب في النظرية التربوية»، بالرغم من هذه السمعة الراسخة. تسعى هذه المقالة بتواضع كبير أن تلقي بعض الشكوك على أسس هذه السمعة.
لنلاحظ أن تصنيف «إميل» بين كتب النظريات التربوية كان متأخراً. فقد ذُكر، أثناء الثورة، ميرابو وتاليران Talleyrand وكوندورسه Condorcet و الأب غريغوار L'abbe Gregoire عدة مرات خلال المناقشات حول المدرسة، أما روسو فقلما دخل الجمعية الوطنية، وحين تدخل روبسبير بنفسه في المناقشات، لم يكن ذلك من أجل أن يشيد بنموذجه الذي قاده باكياً إلى البنتيون، لكن من أجل أن يقترح نصاً طُبع بعد وفاه صاحبه لبيلتيه دو سانفارجو Lepelletier de Saint Fargeau. أما الإشارات إلى روسو فقد اقتصرت على نصه المتعلق ببولونيا. أما المقولات التي تشيد بـ«كاتب إميل الخالد، والتي غالباً ما تذكر، فإنها لا تشير إلى روسو إلا كأثر ماض وليس كمصدر إلهام1. ولم يجد إميل مكانته التربوية العظيمة إلا مع إنشاء المدرسة الجمهورية العلمانية الإجبارية2.
إميل وكتب التربية:
من الجيد التذكر أن كل كتب النظريات التربوية ينبغي أن تحقق عدداً من المبادئ: 1- اقتراح أهداف (لماذا التربية، وفي أي هدف). 2- اقتراح أسلوب (كيف يمكن تحقيق هذه الأهداف، وأي ترتيب ينبغي أن يراعى) 3- دراسة الصعوبات واقتراح الحلول (ماذا ينبغي أن نفعل في حالة ما، كيف يمكن التصرف في حالة فشل ما).
|
ثانياً: لننظر في الأساليب. ينظر الفكر التربوي حول الفائدة من فصل الأطفال عن عائلاتهم، استعمال السوط أو قطعة الحلوى، التعلم بجدية أو عن طريق اللعب، الحديث بالفرنسية أو باللاتينية، تعلم الهندسة بالاستبصار او عن طريق التلقين. حين أراد فينلون تعليم الثالوث الأقدس لبنت صغيرة، لم يتردد فينلون من تكريس عدة صفحات دون أن ينسى أي تفاصيل صغيرة، تماماً مثل تأملات لوك حول استعمال السوط. أين إميل من ذلك؟ إن روسو، كما قيل، كان مع فصل الطفل عن عائلته، رفض السوط مثلما رفض الثواب، واستبعد فكرة الحديث بعدة لغات، ولا سيما اللاتينية، الخ. غير أن إميل يجيب عن هذه الأسئلة دون أن يطرحها بنفسه. إن إيجاد مثل هذه "الإجابات" مشروع، فمن الممكن دائماً تناول أفكار من نص ما لإغناء إشكاليات مختلفة. يمكن لقطعة الشمع عند ديكارت وصنع الأداة عند سبينوزا وجنون النحوي حسب إراسم Erasme ومملوك أفلاطون إلهام الكثير من المربين بشكل سليم. ويمكن أن يكون هناك التلاقح ما بين نظريات التربية. إن كل فلسفة كبرى تجيب على أسئلة التربية دون أن تكون فلسفة تربية.
هل يوجد في إميل أسلوب حقيقي؟ تكثر في الكتاب الثاني والثالث أمثلة قوية بحيث يمكن أخذها كأمثلة متعاقبة لتطبيقها. حكاية الجنائني روبرت: كيف يمكن تعليم طفل ذو ثمان سنوات لا يعرف القراءة والحساب مبادئ القانون التجاري والعقود القانونية. يجعله المشعوذ ذو صاحب البط الممغنط اكتشاف البوصلة، أما بطاقات الدعوة الصغيرة بالتأكيد ستكون أسلوباً قوياً لتعليم القراءة! أيمكن أن نغفر لهذه النبرة المستهزئة، أما هذه الاسكتشات غير قابلة للتطبيق حقيقة، ليس نتيجة غفلة أو أوهام الكاتب ولكن لأن مسألة تطبيقها لم تطرح، فإنها لا تشكل نماذج تربوية ولكن أدوات موجهة لاستعمال آخر.
«إن تفصيل القواعد ليس موضوعي (500)3 . أعطوا الطفل هذه الرغبة (القراءة).. سيكون كلّ أسلوب مناسباً له... أأتكلم الآن عن الكتابة. لا، أشعر بالعار لأنني أتلهى بهذه الترهات (358). لا يهمني إن نجح في أو لم ينجح في اللغات القديمة، في الآداب الجميلة أو الشعر... لا يراد كلّ هذا العبث في تربيته(677).»
كتاب في نظرية التربية دون تفاصيل، أمثلته لا طائل منها، يعطي أسلوباً وحيداً للقراءة «رغبة» القراءة، يصف تعليم الكتابة بالترهات، والنجاح في البلاغة بالعبث، كل هذا سيدفع المربين إلى إدانة هذا الكتاب بالحرق. يعد روسو بتعليم الطفل «فن أن يكون جاهلاً» (370)، بحيث أنه في عمر الثانية عشرة لا يعرف التمييز يده اليمنى من اليسرى (323)، أن لا يكون له أي خيال في الخامسة عشرة، الخ. لا بد أن تُدهش العيون حين يعهد أحد الآباء ابنه لمثل هذا المربي!
ثالثاً: تفرض عقبات مثل العصيان والكسل والغفلة تصنيفات متنوعة وحلول مختلفة (تتراوح ما بين العقاب والثواب)، ويكون الهدف دائماً تربية الطفل بالرغم من طبيعته. يوفر إميل في حالات واقعية عن أطفال غير محتملين مغرورين. يتم حبس هذا الطفل في خزانة، يجبر على البقاء في السرير، يهان من قبل عابرين متواطئين، ينام في غرفة باردة سيكسر نوافذها، الخ. غير أن إميل، يريد، أساساً، «تربية سلبية» ضد الأخطار التي تهدد الطفل. لا تصدر هذه الأخطار عن الطفل، من طبعه أو من عمره، ولكن من تأثير الآخرين الذين يهددون «القلب الإنساني». ليست الصعوبة في تربية الطفل رغم طبيعته، ولكن الصعوبة هي الحفاظ على طبيعته رغم التربية. هنا أيضاً يكون إميل عكس ما تمثله نظرية تربوية: لا أهداف، لا أسلوب، لا علاج.
التربية في فكر روسو:
بالتأكيد، أن مسألة التربية لم تكن غريبة عن فكر روسو، فقد تناولها في إطار تفكيره السياسي: غايتها إنشاء مواطنين وطنيين صالحين. فقد تناولها في مقالته الاقتصاد السياسي التي حررت للموسوعة وفي مقالته حول حكومة بولونيا. كان فكره صارما، أراد أن تتم تربية الأطفال بعيداً عن عائلاتهم في إطار الدولة. وحين قال روسو أن كتاب الجمهورية لأفلاطون هو نظرية في التربية، كان ذلك بفهمه أن الدور الأول للدولة هو تعليم المواطنين. وأن التربية قضية هامة جداً لا يمكن تركها للمدرسين والآباء.
«بالتأكيد، أن الشعوب، مع الوقت تكون مثلما أرادتها الحكومات (Economie Politique,251.).
إنها لنقطة مهمة. إن التربية ينبغي أن تعطي النفوس القوة الوطنية، وتوجيه آرائها وأذواقها بحيث تكون وطنية بالرغبة والعاطفة والضرورة (Sur le G ouvernement de Pologne, 966)»
إن التربية إدماج، تدمر «أنا» الفرد وتعوضها بـ «أنا» الجماعة بحيث يفكر كلّ فرد بالمصلحة الجماعية قبل المصلحة الفردية، وهذا ما يدعى« الفضيلة». وقد أعطي هذا المعنى في السطور الأولى لإيميل.
«إن المؤسسات الجيدة هي المؤسسات التي تعرف تغيير الإنسان.. نقل الأنا إلى الوحدة الجماعية (249). »4
بالتأكيد أن إميل يتناول التربية، حتى أنها كانت العنوان الفرعي للكتاب! ماذا يعني إذاً هذا المفهوم. تمثل الصفحات الأولى منظومة من التعاريف، تتناول الطبيعة، الإفساد، العادة، الإنسان والمواطن. بشكل عام فإن هذه المفاهيم تمثل فلسفة القرن الثامن عشر، هذه الفلسفة التي اتجهت نحو التمييز ما بين الطبيعي و المصطنع، والتي كانت مفتونة بسلطة العادة ومتركزة على العلاقة ما بين العواطف الطبيعية والعواطف السياسية.
ومن ثم، أن كلّ هذه الأسئلة تتضح في مفهوم التربية. في المقام الأول، إن التربية في المفهوم الشائع ليست صالحة، إنها صناعة لشواذ، إنها تهذيب يخرق الطبيعة، إنها صالحة للسياسة، حيث إنها تكيف الفرد مع جماعته وتدمج أناه في الأنا الجماعية.
بعد تربية الواقع، يحدد روسو التربية في ماهيتها حسب ثلاثية: التربية والطبيعة، تربية الأشياء، تربية الآخرين. ويعطي في بقية الكتاب مضموناً محدداً لهذه الثلاثية: تعزز الطبيعة الجسد وتحرر المواهب الإنسانية، وتطور الأشياء المحيطة بالإنسان والمتوفرة لسلوكه ذاكرته وعقله، ويتدخل الآخرون بدءاً من التنبه الجنسي عند نشوء المشاعر الترابطية (الصداقة، الشفقة، التقدير).
بهذه الثلاثية «التربوية» يضع روسو انتربولوجيا اجتماعية ذات قاعدة طبيعية. فيستبعد اجتماعية طبيعية تجعل الإنسان في الدولة مثل النحلة في خليتها، وفكرة اجتماعية تعاقدية التي تجعل من الدولة قراراً ناتجاً عن الحساب الإنساني. ليست هناك حاجة لقلب الطبيعة ليصبح الإنسان اجتماعياً، إنها طبيعته التي تجعله كذلك، ولكن بالعودة، هذه الاجتماعية لا يمكن أن تستغني عن فعل الآخرين، إن الوحيد لا يمكن أن يكون اجتماعياً أبداً. إن فعل الآخرين على الإنسان ليس مصطنعاً، تفرضه الطبيعة، طبيعة تجعل الناس يعملون ما تريد أن يعملوه دون أن يكون لها قدرة على فعله بنفسها5.
إذاً ما يدعوه روسو «بالتربية» ليس سوى فلسفة السببية: بأي آليات، حسب سياق الزمن، تتطور الطبيعة الإنسانية في اتجاه المجتمع، وفي أي آليات تستطيع هذه الطبيعة أن تفسد وأن تهدم الصلات الحقيقية للإنسانية؟ إن مفهوم التربية يجيب على هذين السؤالين.
إن تربية إميل هي تاريخ الإنسانية، كان ينبغي على الإنسانية أن تتربى بنفسها، أي أنه في كل إنسان مبادئ تربيته الذاتية ، وانتقاله من الطبيعة البرية (الوحشية) إلى الطبيعة الإنسانية. إن القلب الإنساني هو ذاته في النوع الإنساني وفي الفرد، ومهمة إميل هي وصفه، وهو، في هذا المعنى كتاب انتربولوجيا، تاريخ النوع الإنساني كما أرادته الطبيعة وكما كان ينبغي أن يظهر6.
- «لا يمكن القول أنه ليس هناك تعليم عند شعب بدأ يتأمل كتابات ألمبر Alembert و كوندياك Condillac و على الخصوص كاتب إميل الخالد.» مداخلة نائب دانو (Le Moniteur, 2brumair an IV).
- إن المدرسة ذات طبيعة مماثلة بفصلها عن المجتمع وعزلها للطفولة. ليس ممكناً هنا تفصيل هذا التفسير النظري الخاطئ.
- الأرقام ما بين الأقواس محالة إلى طبعة La Pleiad، الأعمال الكاملة في خمسة أجزاء.
- ما يشرح أن مسألة التربية غائبة في العقد الاجتماعي هو أنه في النموذج السياسي أن إدماج الأنا يحدث عبر الميثاق المؤسس. إن شعباً حر أ لا يحتاج لتربية لأنه صالح في الأصل. «في الحال، بدلاً من الشخص الخاص لكل متعاقد، فإن عقد الشراكة هذا ينتج هيئة أخلاقية جماعية» (العقد الاجتماعي، 361).
- لتفاصيل أكثر حول هذه السببية يمكن العودة إلى كتابيّ: روسو ولغز الجنس (ed.PUF, 1997) و«شبكة العنكبوت وربة المنزل، ملاحظات حول السببية» (دراسات جان جاك روسو، 1997).
- «إنها لرواية جميلة رواية النوع البشري، هل هو خطئي إن لم توجد إلا في هذه الكتابة؟ لا بد أنها رواية نوعي(جنسي)» (777).
عن : Magazine Littéraire 1997