لوكلوزيو والوحي المكسيكي
|
|
إذا كان لقاء جان ماري غوستاف لوكلوزيو مع المكسيك يعود إلى طفولته الأولى، بفضل صور بركان باريكتان Paricutin المنشورة في صفحات المجلة الجغرافية Geographical Magazine ولقراءة مدهشة في أحد مجلدات مجموعة «كنوز الأرض» المكرس لأساطير الأزيتك حول نشأة الأرض، وكذلك لبعض المقاطع المأخوذة عن كتاب التاريخ العام لتحف إسبانيا الجديدة لساهاغين Sahagun، التي نشرت في الأعداد القديمة لـMagasine pittoresque وjournal des Voyages، فإن اكتشافه الحقيقي للواقع المكسيكي أخذ سبلاً غير منتظرة.
أثناء تأديته للخدمة العسكرية، بصفة معاون في تايلاند، حيث كان يُعلّم العلوم السياسية، أضاع الكاتب الشاب-الذي كان قد صدر له خمسة كتب، منها «المحضر الرسمي» و«الوجد المادي»- حقه في الاحتفاظ به، وجازف بإرساله إلى سرايا التأديب، كونه قد أدان على صفحات الفيغارو بغاء الأطفال الذي بدأ ينتشر في هذه المنطقة من العالم، وبشكل خاص في بانكوك حيث كانت تتمركز القوات الأمريكية. غير أنه تمكن من تجنب العاقبة، حين تم نفيه وإرساله إلى المكسيك، وذلك بفضل تدخل قارئة معجبة، هي زوجة السفير.
كان المؤرخ الفرنسي-المكسيكي جان ماير مُستقبله ودليله في وظيفته الجديدة، كأستاذ للغة الفرنسية في المعهد الفرنسي لأمريكا اللاتينية. غير أن تجربته كانت قصيرة، فقد كان المعلُم الشاب يفضل ارتداء الجينز والصندل على ارتداء الزي التقليدي ذو الثلاث قطع، والقمصان الرياضية بدلاً من قمصان ربطات العنق، ويدخن سيجارة وراء سيجارة. ويُسمع تلامذته أغاني البيتلز. اعتبر ذلك خطأً كبيراً، لذا تم رجاءه بالقيام بإعادة تصنيف بطاقات مكتبة معهد أمريكا اللاتينية في مكسيكو. لم يتم لوكلوزيو أي عمل تصنيفي، وفضّل أن يكرس وقته لتعلم اللغة الإسبانية. أثناء أبحاثه، وقف أمام النصوص المقدسة الكبرى للأمريكيين الهنود-كودكس والوقائع القديمة. الخ- التي لن تفارقه أبداً، والتي ستفتح له باباً لما سيسميه فيما بعد، «الحلم المكسيكي» الاسم الذي أعطاه لأحد كتبه: أساطير، سحر، فن، معرفة، قوانين فكر بُتر مع وصول الإسبان. فقد شّكل استقبال سفن هيرنان كورتيس من قبل سفراء موكتيزوما سيد مكسيكو-تينوشتيتلان، في آذار عام 1519 ما يدعوه لوكلوزيو «واحدة من أكثر المغامرات الرهيبة للعالم».
كان أول نص واجهه لوكلوزيو، في مكتبة المعهد الفرنسي لأمريكا اللاتينية في مكسيكو عام 1968، هو نص أنطوان أرتود المكرس، لهنود تاراهمارس، عام 1936، هذا الشعب المستقل الذي لجأ قبل أربعمائة عام إلى جبال سيرامادرا الغربية فاراً من المبشرين. كانت الصدمة التي عانها بسبب أرتود سريعة: يكتب لوكلوزيو في نص حرره بالإسبانية واستعاده في «الحلم المكسيكي»: «جئت إلى المكسيك لأبحث عن معنى جديد للإنسان.» «كانت تجربة أرتود في المكسيك هي تجربة الإنسان المعاصر الذي يكتشف شعباً بدائياً وفطرياً: الاعتراف بالتفوق المطلق للطقوس والسحر على الفن والعلم.»
صنع هنود الهويشول-المشهورين بلوحاتهم الملونة وبلؤلؤهم وبحجهم السنوي من قراهم في سيرامادرا الغربية إلى منحدرات «جبل الرموز»، في ولاية بوتوسي حيث ينبت البيتول ، صبار يبعث على الهذيان ضروري في طقوسهم الدينية السرية- من الأرض المكسيكية أرضاً للأحلام، أرض مصنوعة من حقيقة مختلفة ومن واقع مختلف. ذهب لوكلوزيو في عطلة الفصح لعام 1968 إلى هنود الهويشول. كان هذا اللقاء الأول مع المكسيك مؤسساً، فقد علمته اللغة والنصوص وحقيقة الطقوس والمراثي والأناشيد وعبور الجبال على ظهر بغل الوجه الآخر للأشياء. عند عودته إلى فرنسا، روى لوكلوزيو هذه التجربة الحاسمة في روايته «كتاب الفرار» المتأثرة جداً بهذا التجوال المكسيكي. «إن لغة الهويشول ليست نظاماً للمعاني، إنها نظام ديني، سياسي، عائلي. مثل كل العلاقات الحقيقية، سواء كانت علاقات عائلية أم علاقات مع الإيمان، لا يمكن اكتسابها. إنها سحرية.»
بدأ اكتشاف لوكلوزيو للمكسيك في مقاطعة جينغل على سفح سيرانيا دل دارين، ومن خلال إقامته في زامورا وسان خوسيه وجاكونا وتاركيتو ومكسيكو. في نهاية هذه اللقاءات، اتضح الدرس: «ببساطة، لدي الشعور بأنه علّي أن أسمع أصواتاً أخرى. كل هذه الأصوات التي لا تصل إلينا، أصوات هؤلاء الناس الذين ازدريناهم لوقتٍ طويل، واعتبرنا عددهم صغيراً، غير أن لديهم أشياء كثيرة ليقولوها لنا.» هذه الأصوات جاءت من النصوص القديمة، التي اكتشفها في المعهد الفرنسي لأمريكا اللاتينية- والتي نشر بعضها في مجموعة «فجر الشعوب»، التي أدارها مع جان غروسجان، الصادرة عن دار غاليمار: بوب ويه، أنبياء شيلام بالام، علاقة ميشوكان. وجاءت هذه الأصوات أيضاً من الأشخاص الأحياء الذين التقاهم، مثل ريغوبرتا منشي، هندية شابة من كيشي في الشمال الغربي، لغواتيمالا التي تعلن بصوتها «الهادئ والواثق» عن أشياء بسيطة، أصيلة، باهرة، صادقة.
في بداية الطريق نحو الأصوات الغريبة القديمة أو الجديدة، كان عند لوكلوزيو دائماً رغبة حرية ولكن أيضاً أملٌ عنيد: الذهاب عميقاً في معرفة ليست ذهنية. هذا ما وجده في المكسيك. يستطيع هناك أن يتصل مباشرة مع الكون، مع حساسية الماء والنهر، مع فكر السماء والشجر، مع الكائن الموجود في أوراق الشجر، مع اللغة الفسيحة التي نسيت اللغة. لننظر بانتباه إلى العالم المهجور للشيشيمك وللتولتك، وللآزيتك: لغة لا تحتاج للكلمات، للعبارات، وللأدب، لغة صنعت من الغياب، من الأصل، من الأماكن المخفية والسرية؛ هنا يرتبط الكائن الإنساني مع العالم المرئي والعالم اللامرئي. دليل على الخلود هذه التماثيل الطينية للأطفال ذات الجمال الغير طبيعي والمنحوتة ما بين عام 1200 و 1000 ما قبل الميلاد من قبل الأولمك القدماء.
المكسيك: أرض الدروس.
علّم الهنود لوكلوزيو أن لا يخشى الزمن، أن يثق بنفسه، أن لا يخاف من الموت، أن لا يرفض تجدّد الأجيال. في هذا البحث عن تماسك، في هذا الطريق نحو الذات، بتر الفكر المكسيكي نهائياً الرابط بين اللغة والنشيد: أصبح صوته آلة. اكتشف أن الإنسان وحده يعرف الغناء ووحده أسس سلطته على الطبيعة وعلى الزمن المديد، اللانهائي. زمن خلّده الفضاء، مثل النصوص النادرة جداً لخوان رولفو. زعيم القبيلة (بيدرو بارامو)، نسائه، قاتليه، الثورة المكسيكية، لكن أيضاً: عالمٌ غريب حيث الحياة والموت، الواقع والمتخيل، الماضي والمستقبل تتوقف من أن تدرك كمتناقضات.
في نهاية السبعينيات، فيما كان يترجم أنبياء شيلام بالام، يستقر لوكلوزيو في جاكونا، وسط ما يدعى في المكسيك البلاد السفلى لميشوكان حيث تتبعثر مدن زامورا وساهويو وشافيندا وبيدادا الهجينة، يقوم فيها باكتشاف أساسي: الأمريكيون الهنود ليسوا غرباء عنا، إنهم جزء منا، ومن قدرنا. أصبح لوكلوزيو أستاذاً في كلية ميشوكان في زامورا، فيجول في المنطقة. ليس بعيداً من هنا، في تاركياتو، يتعرف على السيد دانيل مونزو، أستاذ بيرهابشا، الذي سيصبح صديقه، وسيعلمه تاراسك، هذه اللغة التي كانت سائدة في كل ولاية ميشوكان الحالية تقريباً خلال القرن السادس عشر. هذه اللغة لا تعني اليوم إلا بضع آلاف من الأشخاص على أرض محدودة تمتد حول يريابان، من باراشو ومن بحيرة باتزكوارو، اسم المدينة التي كانت قديماً مركزاً دينياً وسياسياً كبيراً للتاراسك. حوى «الحلم المكسيكي» و «أناشيد العيد» العديد من النصوص التي كتب بعضها بالإسبانية مباشرة، كُتبت في هذه المنطقة التي ترمز بقوة إلى المكسيك.
أين حقيقة الحلم؟ في كلّ مرة كان لوكلوزيو يفكر فيها في علم الآثار، في التاريخ أو في العديد من العلوم الإنسانية، كما يعترف في «المجهول على الأرض»، كان «يشعر برجفة». كيف يمكن بناء جسر عبر القرون؟ أي مهمة جديدة تُعّهد للإنسان؟ معرفة الإنصات إلى الآخر: هذا ما تستطيع أن تقوله لنا الشعوب التي لا نريد الإنصات إليها، الشعوب القديمة. تلعب المكسيك هنا دوراً هاماً. علاقة ميشوكان، أنبياء شيلام بالام، بوب ويه جزء من الكتب المقدسة الكبرى التي تحرك شعورنا: «المعرفة التي تنقلها لنا معرفة تسبق الكتابة.» مثل حساسيته لدروس النصوص المؤسسة ونصوص الشعوب القديمة، كان لوكلوزيو حساساً للحداثة، التي مثلتها في المكسيك مغامر الثنائي الأسطوري الذي شكلّه فريدا كاهلو وديغو ريفرا.
|
«لماذا أريد أقداماً ما دام لي أجنحة لأطير بها؟» كل المكسيك في هذه العبارة. هذا ما فهمه لوكلوزيو الذي، في كتابه المخصص لفريد وديغو، رأى في أبديتهما الأسطورية انبعاثاً لازدواجية المكسيك الأصلية: أوميتكوتلي وأوميسيهوتل. سيدٌ مرتين وسيدة مرتين يسكنان في أوميوكان، مكان الإزدواجية. يترأس هو أول يوم في التقويم وتترأس هي آخر يوم فيه. ثنائي إلهي في أو ل الزمان ولآخر الزمان. ليقال لنا، ببساطة، بأن الإنسان ينتمي إلى الأرض وليس العكس. أو أيضاً، جاء ذلك من كودكس فلورنتينوس: «هؤلاء الذين يعيشون اليوم، سيعيشون مرة أخرى، وسيكونون مرة أخرى.»
عن: Magazine Air France N: 48Avril 2001