رسائل إلى صديق ألماني

الرسالة الرابعة

 

«من الممكن أن يكون الإنسان فان. إلا أنه علينا أن نفنى ونحن نقاوم، وإذا كان العدم قدرنا، فلا نجعل من ذلك عدالة».

أوبرمان، الرسالة 90

ها قد جاء زمن هزيمتكم...

أكتبُ إليك من مدينةٍ ذائعةِ الصيت، تصنع ضدكم غداً من حرية. إنها تعلم أن هذا ليس سهلاً، وأنه لابدَّ من اجتياز ليلٍ أشدَ ظلمةٍ من ذاك الذي بدأ بقدومكم قبل أربع سنوات. أكتبُ لك من مدينة محرومة من كل شيء: دون ضوء، دون نار، جائعة... لكنها لم تخضع أبداً. قريباً... ستعصفُ فيها أشياءٌ وأشياء، لم تدركها بعد. إذا كنا محظوظين، سنتلاقى.... أحدنا أمام الآخر. سنستطيع القتال ونحن واعين أبعاد القضية: لدي فكرة دقيقة عن أسبابك ويمكنك أن تتصور جيداً أسبابي.

هذه الليالي التموزية، خفيفة وثقيلة في الآن ذاته: خفيفة على نهر السين والشجر، ثقيلة على قلوب هؤلاء الذين ينتظرون الفجر الوحيد المشتهى. أنتظر وأذكرك: مازال لدي شيءٌ لأقوله لك. أريد أن أقول كيف كان يمكننا أن نكون متشابهين جداً ونحن، اليوم، أعداء، كيف كان يمكنني أن أكون إلى جانبك ولماذا انتهى، الآن، كل شيء بيننا.

اعتقدنا معاً، لوقتٍ طويل، بأنه لم يكن يوجد في هذا العالم عقلٌ أعلى وأن آمالنا قد خابت. مازلت أعتقد ذلك بطريقة أو بأخرى، ولكني.. وصلت إلى نتائج تختلف عن تلك التي كلمتني عنها.. والتي تحاول منذ سنين كثيرة إدخالها في التاريخ. أتساءل اليوم فيما لو تبعتك حقاً بما تعتقد به. كنت سأعطيك الحجة لما تفعله.. إنه لأمر خطيرٌ جداً، يجب أن أقف عنده في لجة هذه الليلة التي تحمل لنا الوعود وتخبئ لكم الوعيد...

أبداً... لم تؤمن بمعنى هذا العالم، أمنتَ أن كل شيء فيه سيان: الخير والشر يتحدد حسبما نريد. افترضت أنه في غياب كلِّ أخلاقٍ إنسانية أو إلهية تصبح القيم الوحيدة هي القيم التي يحددها العالم الحيواني: العنف والخداع. استخلصتَ من ذلك، إلى أن الإنسان لم يكن شيئاً وأنه من الممكن قتل روحه. واعتقدت أن مهمة الفرد في فوضى التاريخ، لايمكن أن تكون إلا مغامرة القوة، وعبرته يجدها في حقيقة الغزو. أما الحقيقة، فأنا الذي اعتقدت أني أفكر مثلك، فقلما أرى حجة لمقارعتك، في النتيجة،سوى تلك اللذة القوية للعدالة، التي كانت تبدو لي إذا ما قيست إلى الأهواء المباغته، أقل عقلانية.

أين الخلاف...؟

قبلت بسهولةٍ أن تيئس أما أنا فلم أرضَ....

سلمت بظلم ظروفنا وعزمت على زيادتها ظلماً..

على النقيض، بدا لي أن على الإنسان أن يدعمَ العدالة كي يناضل ضد الظلم الأبدي، أن يخلق السعادة كي يحتج ضد عالم الشقاء. لأنك جعلت من يئسك نشوة، ولكي تتخلص منه بجعله معياراً، قبلت بتدمير منجزات الإنسان. حاربت ضده كي تكمل تعاسته. أما أنا فقد رفضتُ أن أسلم بهذا اليأس وبهذا العالم المعذب، أردتُ فقط أن يجدَ الناس تضامنهم للوقوفِ ضد قدرهم العاصف.

كما ترى، من ذات المبدأ استخلص كلٌّ منا عبراً مختلفة. سرتَ في طريقٍ تخليت فيه عن بصيرتك، ووجدت أنه من السهل عليك (هكذا قلت لا مبالياً) أن يفكر عنك إنسان آخر وعن ملايين الألمان. لأنكم سئمتَم محاربةَ السماء، واسترحتم في هذه المغامرة المنهكة، حيث مهمتكم بترُ الأرواحِ وتدميرُ الأرض. باختصار، اخترتمَ الظلم ووضعتَم أنفسكم مع الأرباب. لم يكن منطقك إلا منطقاً صورياً.

على النقيض، اخترتُ أنا العدالة كي أبقى مخلصاً للأرض. بقيتُ على إيماني أن ليس لهذا العالم معنىً أعلى. إلا أني أعرفُ أن هناك شيءٌ فيه يحملُ المعاني: إنه الإنسان..لأنه هو المخلوقُ الوحيد الذي يبحث عنه. على الأقل، يملك العالم حقيقة الإنسان. ومهمتنا منحه دوافعاً في نضاله ضد القدر نفسه. وليس هناك بواعثاً غير الإنسان. وهو الذي يجبُ إنقاذه إذا أردنا إنقاذَ الفكرةِ التي تُصنعُ منها الحياة. ابتسامتك وسريرتك سيقولان لي: ماذا يعني إنقاذ الإنسان؟ سأصرخ بكل ما في: لا يعني ذلك بتره وإنما منحه الفرصة للعدالة التي لا يدركها أحد غيره.

لهذا، نصارع...

لهذا، وجب علينا أن نتبعكم في طريق لا نريده، في أخره وجدنا هزيمتنا. بما أن يئسكم صنع قوتكم، فإنه من اللحظة التي صار بها منفرداً، مطبقاً، واثقاً من نفسه، أصبح لليأس قوةً دون رحمة، إنها هي القوة التي سحقتنا حين كنا مترددين وحين كنا لا نزال ننظر إلى الصور السعيدة. كنا نعتقد أن السعادة هي الفتح الأكبر ضد القدر المفروض علينا، حتى في الهزيمة، لم يكن يتركنا هذا الأسى.

إلا أنكم فعلتم ما يلزم، دخلنا التاريخ. وخلال خمسِ سنوات، لم يكن بالإمكان الاستمتاعُ إلى صوتِ الطيور في عذوبة المساء. كان علينا أن نيأس من القوة، ابتعدنا عن الدنيا، لأن كل لحظة منها تمتلىء بالصور المميتة. منذ خمس سنوات، لا يُرَ صباحٌ على هذه الأرض دون سكرات الموت، ولا مساءٌ دون سجن، ولا ظهيرة دون مذبحة. نعم، كان علينا أن نتبعكم، إلا أن صنيعنا الباهر الصعب كان أن نسير خلفك في الحرب، دون نسيان السعادة. في لجة الصخب والعنف، نحاول أن نحفظ في قلوبنا ذكرى بحرٍ سعيد، تلةً لا تنسى... ابتسامةُ وجهٍ عزيز. كان ذلك أفضل سلاح لنا، لن نلقيه أبداً. لأنه في اليوم الذي نفقده سنكون موتى مثلكم. بكل بساطة، نعرف الآن أن أسلحة السعادة، كي تنسل، تحتاج لوقتٍ كبير ودمٍ وفير...!

كان علينا أن نصطبغ بفلسفتكم، أن نشبهكم.. قليلاً، اخترتم البطولة دون موجه، لأنها القيمة الوحيدة التي ظلت في عالم أضاع معناه. وحين اخترتموها لكم، اخترتموها لكل العالم... ولنا، كنا مجبرين أن نقلدكم كي لا نموت. لكننا أدركنا أن تفوقنا عليكم يكمن في وجود موجه لنا. كل هذا سينتهي... الآن، بإمكاننا أن نقول لكم ما تعلمناه: إن الشجاعة... شيء قليل الأهمية، أما السعادة فهي الأصعب.

الآن،.. كل شيء يجب أن يكون واضحاً لك، تعرف أننا أعداء. أنت رجل اللا عدالة، وليس هناك شيءٌ في العالم يستطيع أن يكرهه قلبي بهذا القدر. غير أن هذا ما كان إلا شعوراً أعرفُ - الآن - بواعثه. قاتلتكَ لأن منطقكَ مجرمٌ كقلبك. وفي الرعب الذي سخيتم به علينا، خلالَ أربعِ سنوات.‎، كان لرشدكم نصيبٌ فيه كما لغرائزكم. لهذا، ستكونُ إدانتي شاملة، منذ الآن... أنت في عيني ميت. ولكن، في الوقت الذي سأحاكمُ فيه قيادتك الفظيعة، سأذكر أننا، نحن وأنتم، ابتدأنا من العزلة نفسها، إننا، نحن وأنتم، مع كل أوروبة في مأساةِ الفكرِ ذاتها. وبالرغم من كل شيء سأحفظ لكم اسم «الإنسان». ولأجل أن نكون مخلصين لإيماننا، فإننا مجبرون أن نحترم فيكم ما لم تحترموه عند الآخرين. لوقتٍ طويل، كانت تلك ميزتكم الكبرى. تقتلون ببساطة أكثر منا.. وحتى نهاية الزمن، سيكون هذا مغنم الذين يشبهونكم، أما نحن الذين لا نشبهكم علينا أن نشهد، حتى نهاية الزمن، كي يتلقى الإنسان على أردئ أخطاءه تبريره وصكوك براءته.

لأجلِ هذا، في نهاية هذه المعركة بقلب هذه المدينة التي أخذت وجه جهنم، بالرغم من كل العذاب الموجه ضدنا، وبالرغم من موتانا ومشوهينا وأيتامنا، أستطيع أن أقول في هذه اللحظة نفسها التي سندمركم فيها دون شفقة، بأننا لا نحقدُ عليكم. حتى ولو في الغد... إن كان علينا أن نموت كالآخرين لن نكون حاقدين أيضاً. لا يمكننا أن نرد عليكم بلا خوف.. فقط نحاول أن نكون عقلانيين.ولكن يمكننا أن نرد عليكم بلا حقد. والشيء الوحيد الذي أستطيع اليوم أن أكرهه، أقول لك، هناك ضوابط تحكم بيننا وبينه. نريد تدميركم في قوتكم دون أن نبتر روحكم.

هذه هي الميزة التي كنتم تتفوقون بها علينا ولازلتم. إنها بذات الوقت هي سر قوتنا. وهذا ما يجعل ليلتي تمر بخفة. قوتنا تفكيرنا، مثلكم، في عمق هذا العالم، في عدم رفض مأساة، هي مأساتنا. ولكن في ذات الوقت، قوتنا تكمن في إنقاذنا لفكرة الإنسان من شفا كارثة الفكر، وإنقاذ شجاعة التجدد التي لا تتعب. بالتأكيد اتهامنا للعالم مازال قائماً. دفعنا غالياً كي لا تبدو ظروفنا يائسة. مئات آلاف الرجال المقتولون في الصباحات الباكرة، جدران السجن الرهيبة، أوروبة العابقة بجثث الملايين من أبنائها. كل ذلك من أجل الحصول على اثنين أو ثلاثة من المزايا التي ، ربما، لا تنفع سوى ليموت بعضنا بشكلٍ أفضل. نعم... إنه لشيءٌ يدفع لليأس. إلا إنه علينا أن نبرهن أننا لا نستحق هذا القدر من الظلم، إنها مهمتنا التي ستبدأ غداً. في ليلة أوروبة هذه، حيث تركض نسمات الصيف، ملايينُ الرجال المسلحين والعزل يستعدون من الآن للقتال. سيبزغ الفجر وتجيء هزيمتكم . أعرف أن السماء التي لم تبال بانتصاراتكم الوحشية لن تبال بهزيمتكم. اليوم لا انتظر منها شيء. إلا أننا على الأقل سنساهم في إنقاذ الإنسان من العزلة التي أردت وضعه فيها. لاستخفافكم بهذا الإخلاص للإنسان فإنكم، بالآلاف، ستموتون بالعزلة.

الآن أستطيع أن أقول لك وداعاً.

تموز 1944

 

Retour عودة