ريمون كونو.. من يطير يموت في النهاية

يبدو ريمون كونو، بابتسامته ونظارته، كاتباً غامضاً، يملأه الغموض أكثر مما يحيط به. في اللحظة التي نعتقد بها أننا قبضنا على غاية أو خاصية أو عبرة ما، يبرز أمامنا شيء آخر، ينتزع كل خيط سابقه، لا نعرف أبداً من أي طرف يمكن مسكه، بكلام آخر، لا نعرف ماذا سيتدفق من العلبة التي نتأهب لفتحها.

ما يثير الفضول أيضاً عند كونو، أن هذا الكاتب الذي عاش السريالية والأدب الملتزم والرواية الجديدة، لم يخضع لهذه الاتجاهات. مع ذلك فإنه لم يكن كاتباً رجعياً، فقد ظل طيلة حياته، وسيظل لوقتٍ طويل أيضاً، كاتباً معاصراً..

غير أن رفضه لهذه الأشكال الكتابية الحديثة والرصانة التي ترافقها ً جعلت ريمون كونو دائما يؤخذ على أنه غير جدي ، أو أنه كاتب هزلي. مع ذلك، فإن أعماله لاقت نجاحاً متأخراً جعلت منه كاتباً نموذجياً. 

 

 «ولدتُ في الهافر في 21 شباط 1903...»        

ولد في 21 شباط 1903 بمدينة الهافر الصناعية في مقاطعة النورماندي شمال فرنسا، حيث كان والداه يملكاً محلاً للأقمشة والألبسة الجاهزة. ظل كونو في ثانوية المدينة إلى أن حصل على شهادته الثانوية. في عام 1920، ذهب إلى باريس ليتابع دراسته الجامعية في الفلسفة. وفي عام 1924 أدخله بيير نافيل إلى الحركة السريالية. التحق في الجيش في الفترة الممتدة من تشرين أول 1925 إلى شباط 1927 لأداء خدمته الإلزامية في قوات الزواف [1] ويشارك نتيجة لذلك في حرب الريف المغربي. عمل موظفاً في مصرف عام 1928، وكذلك شارك في أنشطة شارع شاتو، حيث كان يجتمع منشقي الحركة السريالية، فقد كان قد قطع في العام ذاته علاقته مع أندريه بريتون لأسباب شخصية بحتة (وقد أثار هذه الفترة بعد عدة سنوات في كتابه أوديل). يقوم كونو، عام 1932، برحلة إلى اليونان، يبدأ خلالها بكتابة النجيل، وهي الرواية التي ستصدر عام 1933. ومن حينها ستنزوي حياته خلف أعماله.

وفي عام 1937 تظهر مجموعته الشعرية المهمة السلسلة والكلب. وفي عام 1938 يصبح كونو عضواً في لجنة القراءة في دار غاليمار. ينشئ مع ميشيل غاليمار، عام 1945، موسوعة الثريا، والتي يديرها لمدة ثلاثين عاماً. في عام 1949، قام إيف روبير بإخراج عمله تمارين إنشائية. وانتخب كونو عام 1951 في أكاديمية غونكور. وفي عام 1953، كتب سيناريو فيلم السيد ريبوا لرينيه كليمان. وأصدر  زازي في المترو التي لقيت نجاحاً كبيراً وغير متوقعاً. وبعد نشر مئة ألف مليار  قصيدة، يؤسس مشغل الأدب الكامن. في عام 1968 تصدر روايته الأخيرة طيران إيكاروس، ومن ثم في عام 1973 كتابه رحلة إلى اليونان والذي يضم  مجموعة مقالات نشرت خلال سنوات الثلاثينيات في مجلات مختلفة. ومن ثم كتابه عبرة أولية الذي صدر عام 1975، والذي هو عبارة عن قصائد ملغزة. وقد توفي كونو في 25 تشرين أول 1976 في ضاحية نولي سير السين بالقرب من باريس.

 

كتاباته وقصائده الأولى

  يسترجع كونو على عاتقه ملاحظة لافونتين: «أكتب قصائد مثلما تثمر شجرة تفاح تفاحاً» قد تصف هذه الصورة  مجمل أعماله. ففي الحقيقة فقد نمت أعماله، في فترة معينة، في أرض أدبية محددة تماماً: إنها فاكهة هذه الفترة وهذه الأرض. غير أنها تطورت بطريقة لا تترك مجالاً للتأثر بالموضات الأدبية: يعتمد طعم تفاحاته  على الأرض والمناخ غير أنهن لا يملكن أبداً رائحة البرتقال ولا الشمام.

تثير هذه الظاهرة الفضول وتدعو للوقوف عليها للحظات: كان كونو الكاتب الوحيد الذي تردد إلى الحركة السريالية (الأرثوذكسية) مدة خمس سنوات و لو يتأثر بها أبداً. بل فقد استنتج بأنها  ليست الطريقة الملائمة للكتابة. كان فلوبير وجويس وفولكنر هم الكتاب الذين أثروا عليه مباشرة منذ تلك الفترة. مع ذلك كانت هناك بعض القصائد التي جمعت فيما بعد في إحدى مجموعاته تذكر بعالم الحالم.

في الحقيقة، كان العمل الأول لكونو النجيل (1933) يظهر دون غموض همين غريبين بعمق عن السرياليين وعما لن يتخلوا عنه أبداً: همّ البناء الخيالي وهمّ الاهتمام المنهجي باللغة.

من المستحيل تلخيص حبكة النجيل، رواية مكثفة تغزر فيها الشخصيات وتتشابك فيها الأحداث. يدور جزء من الحكاية حول باب غامض يملكه تاجر قذر للأثاث المستعمل والذي يركض فيما بعد وراء كنز مفترض، اتبع كونو في روايته الأولى أسلوباً "محكياً" مختلفاً عن أسلوب سيلين[2]( 1894-1961) وعن أسلوب الشارع. في الحقيقة ينبغي أن نحدد أكثر: لا يكمن أسلوب كونو في الشكل وفي التركيب وفي مفردات اللغة الفرنسية الشعبية بقدر ما يكمن في الطريقة القابلة للتأويل والتي تدخل الفرنسية الشعبية في لغة قوية مكتوبة جيدا ومنقحة بقسوة. ً هذه الإضافة للأشكال والمفردات الجديدة لها ميزتين من بين ميزات أخرى: غنى للمواد التي يملكها الكاتب؛  وإمكانيات متعددة  للهروب من الأسلوب.

هذا الهروب من الأسلوب ضروري لكونو، أولاً لأنها عملية تمتعه، ولكنها أيضاً تندمج بقوة في همه ببناء معّدٍ جيداً. فلا يوجد شيء في "مخطط" النجيل متروك للصدفة: أحد وتسعون مقطعاً لكل منها مكان محدد بدقة، دخول وخروج الشخصيات، تطور الأحداث كلها خاضعة لقواعد حسابية وقياسية.

لو كان مثل هذا المشروع بين يدي كاتب رديء لا يمكن أن يعطي إلا رواية جافة ومسطحة. أما كونو فقد صنع منها تحفة من الذكاء واللطف والطرافة والحنان والقسوة.

كانت« السلسلة والكلب» المجموعة الشعرية الأولى لكونو، وقد نشرت عام  1937. وقد كانت عملاً يبعث على الفضول، نجد فيها ذكريات الطفولة والشباب وحكاية علاج نفسي وحفلة في القرية. في هذه المجموعة وتحت عنوان رواية شعرية، يرفض الشاعر بطريقة صاخبة ومتواضعة في الوقت ذاته عشرين سنة من الإرهاب السريالي ونصف قرن من التصنع. مستخدماً بقصد كتابة رتيبة ومبتذلة، لا تصف إلا الوقائع العادية، والتي قد تصل في بعض الأحيان حد البذاءة متبعاً آثار شعر يومي لم يعد يظهر في أعوام الثلاثينات (وحتى السبعينات) إلا في الأغاني.

يمكننا أن نعتبر أن «النجيل» و«السلسلة والكلب» تمثل أساس كلّ الأعمال الروائية والشعرية لريمون كونو: نجد فيها أساس كل فضوله واهتماماته ومزاجه، ونجد فيها أيضاً الأساليب المختلفة للكتابة التي لن يتركها أبداً.

 

اللغة:

كان فضول  ريمون كونو واسعاً، فقد شمل كل مجالات العلم، مع تفضيل خاص للرياضيات. تجمع هذه النزعة الموسوعية نزعتين مكملتين، متعة امتلاك المعرفة والاهتمام بأساليب الاكتشاف. تمثل النقطة الثانية النقطة الأساسية، وهي التي جعلت لريمون كونو عقلاً علمياً حقيقياً وليس تكميلياً مثل بوفار و بيكشه[3]. سنحترس من إهمال هذا الوجه من شخصيته والذي قاده لتحرير موسوعة الثريا. وفي النهاية، سنتذكر دائماً السؤال الجميل الذي طرح في أوديل:  «أي رضى نحققه حين لا نفهم شيئاً ما؟»

أصبحت اللغة أداة عمله الأساسية،  والتي سينكب عليها فضول كونو بمثابرة وذكاء. وفد حظي هذا الوجه من فنه الكثير من النقد. فقد ركز كلّ النقاد، الذي أصبحوا كثر، على "الفرنسية المحكية" لكونو.

من الحق القول أن لغة كونو شكلت مساهمة قل مثيلها في الأدب المعاصر. مثل معظم الطروحات الثورية، فقد لعبت على مستويين، مستوى الهدم ومستوى البناء.  يلاحق مستوى الهدم التبجحات والخواء، ويظهرهما بخبث ويجعلهم غير قابلين للاستخدام. أما في مستوى البناء فإنه يقدم أشكالاً جديدة للكتابة، أكثر مباشرة، أكثر فعالية أو أكثر مهارة.

في عام 1960، شكل ريمون كونو مع صديقه الرياضي فرنسوا لوليونيه مشغل الأدب الكامنOulipo ، والذي يقترح إنشاء "هياكل" شعرية وروائية جديدة. لا يشكل مشغل الأدب الكامن والذي ظل أعضاءه الحاليين يعملون في ذات الاتجاه، مجرد "ناد أدبي"، ولكن خلق حقيقي تثبته أعمال كونو الأكثر  تعذراً  للإمساك والأكثر غنى. وقد انضم إليهما في ذلك ألبرت ماري شميدت وكلود برج المختص في الرياضيات وجاك بنس ونويل أرنو وجورج بيرك وبول فورنيل وإيتالو كالفينو وغيرهم. 

وقد سعى المشغل إلى  البحث عن إمكانيات شعرية جديدة. حيث أن كل ما هو شعري يخضع إلى قواعد ومتطلبات معينة (على سبيل المثال: العروض) ورغم أن هذه القواعد والمتطلبات خارجية فإنها لا تعيق الإبداع الفني حين يتم تبنيها. من هنا، يعمل المشغل على اكتشاف هياكل جديدة ، أي قواعد ومتطلبات جديدة. بحيث تسمح هذه الهياكل الجديدة، من جانب، بظهور «أدب كامن» من مواد موجودة. في كلام آخر، فإن تطبيق هيكل جديد على عمل قديم ينتج منتجاً جديداً قد تكون له قيمة أدبية بذاته، وقد يسهم في تحليل هذا العمل. ومن جانب آخر فإن هذا الهيكل الجديد يمكن له أن يبدع عملاً جديد بكليته.

الروائي:

دفعت أهمية الأبحاث والاكتشافات اللغوية النقاد إلى إهمال مهاراته الروائية الاستثنائية، فقد كان كونو روائياً رائعاً ومبدعاً للشخصيات بشكل يثير الإعجاب .

فقد كانت شخصياته متنوعة، رغم أننا نستطيع تصنيفها ضمن فئتين متجانستين: الأبطال والناس العاديون. أبطاله هم من يفكرون، ليس بالضرورة أن يفكروا مثل كاتبهم، ولكنهم يشغلون عقولهم ، كآلة بحث . أما الناس العاديين فهم متمردون على كلّ جهد عقلي، ويمتصون أفكار الآخرين بسهولة حين يدركونها.

غير أنه ينبغي أن نتناول بصورة خاصة شخصياته النسائية. لقد وصف كونو بطلاته بقوة وحنان، كانت بطلاته ذات عناد شديد، ينبغي أن يُحيين من رجالهن (أزواج وعشاق). هكذا كانت حالة أوديل في أوديل ونعومي في أطفال الليمون وأنيت في شتاء قارص، ول.نL:N  في طيران إيكاروس. بل أننا نجد، حين ننظر عن قرب، أن النساء «العاديات» يلعبن دوراً مؤثراً في عائلاتهن: تمثل سيدوني كلوش في النجيل وجوليا في أحد الحياة العناصر المحركة للروايتين اللتين تسكنان.

يوظف كونو هذه الشخصيات، بشكل عام، في حالات غير مألوفة، ملئ بالتطورات، والأحداث المفاجئة. تقدم العديد من رواياته حبكات متشابكة مختلفة، مما يجعل عملية تلخيصها صعبة: هذه هي حالة النجيل وبيرو وكذلك الأيام الأخيرة وأطفال الليمون وسانت غلانغلان. كما أننا سنلاحظ أيضاً أنه في الوقت الذي يهمل فيه الكتاب "الجديون" بطيبة خاطر المشاعر العاطفية للكتاب الشعبيين، فإن كونو كان ينشر مع أوديل وشتاء قاس روايتي حبّ عمقتين ومؤثرتين.

 

عبّرة

بالرغم من الحذر الذي يعلن عنه صراحة ريمون كونو باتجاه بنائّي الأنظمة وبالرغم من مبادراته القليلة لإعطاء الدروس، فإنه من الواضح أننا يمكن أن نميز في أعماله ظل عبّرة أخلاقية: إنها خاصية كل نظام مترابط سواء كان حقيقياً أو متخيلاً. هذه العبرة لا تتطابق كلياً مع مجتمع الإنسان. لا يرمم هذا الكاتب الواقعي العالم كما هو، بل يصوبه. لكنه يصوبه بمجرد الإغفال.

على سبيل المثال، لا توجد أية شخصية دنيئة في هذه الأعمال المليئة بمئات الشخصيات- في الحقيقة هناك واحد: بيبي توتو العفريت الشيطاني في النجيل، وفي الحقيقة أنه ليس رجل بالضبط. لقد اختار كونو عدم التكلم إلا عن الناس المؤنسين، هؤلاء الذي سيستمتع بالتردد إليهم. بل أنه يدفع على الاعتقاد، للحظة ما، إلى أن كل الناس ذوي نيات طيبة، إلا أنه يترك إشارة أنه أو هناك تكشف سذاجته الخاطئة.  

إن كلمة "الخبث" مفضلة على كلمة "الدعابة"، وذلك لأن الدعابة، عند كونو،  ملئ بالثنايا المظللة، وبالاستهزاء والضحك الذين لا يمكن اكتشافهم أبداً في عمق الأشياء. ربما يعود ذلك إلى أصله الريفي، حيث أن الريفيين، حتى الأكثر مكراً منهم، يمتلكون دعابة كثيرة لأجل الدعابة! أما الخبث،على النقيض من ذلك، فإنه يناسب كلياً طريقتهم في رؤية وفهم ورؤية الأشياء. في النهاية، إن أردنا أن نطرح بجدية السؤال بإمكاننا العودة إلى مقال «الدعابة وضحاياها المنشور عام 1938 في نيّات، والذي نشر مرة أخرى بعد خمس وثلاثين سنة في رحلة إلى اليونان. فنجد إنها لا تحل المشكلة: حيث أنها تلقي بالقارئ ذي النية الطيبة في حيرة طبيعية، وذلك هو المفضل.  

الطيران الأخير

كتب ريمون كونو ما بين 1952 و1960 سيناريو العديد من الأفلام، فبالإضافة إلى السيد ريبوا لرينيه كليمان، يمكن أن نذكر موت في هذه الحديقة للويس بونويل  وأحد الحياة لجان هيرمان  والذي اقتبس من روايته. بالرغم من الحب الذي أظهره للسينما، بدا هذا الفن لا يلبي كلياً ما ينتظره. يمكن لنا أن نفترض أن ذهناً دقيقاً و صانعاً مجادلاً لن يتحمل طويلاًً التقريب الجذاب ولكن المضني الذي يرافق غالباً عمل السينمائيين.

لم تكن رواية ريمون كونو طيران إيكاروس الأخيرة فقط الأخيرة  ، ولكنها كانت أيضاً ذروة أعماله، أراد فيها الكاتب أن يجمع  كلّ ما يعرف صنعه وكلّ ما أحبه في باقة فاخرة أخيرة. ما نلاحظه أن هذا الكتاب مصمم مثل سيناريو فيلم مبني بعناية، وأن أسلوبه أسلوب سردي، وحواراته تشبه حوارات السينما وأن شخصياته متنوعة جداً. وفي النهاية قدم ريمون كونو جواباً شجاعاً عن السؤال الغامض المتعلق ببطل الرواية، لكنه جواب سوداوي: «من يطير يموت في النهاية». 


Retour عودة

[1]- وحدات عسكرية فرنسية للمشاة أنشئت في الجزائر عام 1830 وتم حلّها عام 1962.

-[2] كاتب فرنسي (1894-1961)اسمه الحقيقي لويس فردديناند دتوش   Louis Ferdinand Destouches من أهم أعماله سفر إلى آخر الليل 1932 ومن قصر إلى آخر 1957.

[3]  رواية لفلوبير لم تكتمل، نشرت عام 1881، تروي  قصة محاولة فردين ذوي ذكاء متواضع في التجريب في العلوم دون منهج محدد، ولا يستطيعان سوى استيعاب الأفكار المسبقة، فيفشلان بشكل مثير للشفقة (المترجم).